تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 5 من سورة القدر

سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
وجملة : { سلام هي حتى مطلع الفجر } بيان لمضمون { من كل أمر } وهو كالاحتراس لأنّ تنزّل الملائكة يكون للخير ويكون للشر لعقاب مكذبي الرسل قال تعالى : { ما تنزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذاً منظرين } [ الحجر : 8 ] وقال : { يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين } [ الفرقان : 22 ] . وجُمع بين إنزالهم للخير والشر في قوله : { إذ يُوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق } [ الأنفال : 12 ] الآية ، فأخبر هنا أن تنزل الملائكة ليلة القدر لتنفيذ أمر الخير للمسلمين الذين صاموا رمضان وقاموا ليلة القدر ، فهذه بشارة .
والسلام : مصدر أو اسم مصدر معناه السلامة قال تعالى : { قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } [ الأنبياء : 69 ] . ويطلق السلام على التحية والمِدحة ، وفسر السلام بالخَيْر ، والمعنيان حاصلان في هذه الآية ، فالسلامة تشمل كل خير لأن الخيْر سلامة من الشر ومن الأذى ، فيشمل السلامُ الغفرانَ وإجزال الثواب واستجابة الدعاء بخير الدنيا والآخرة . والسلام بمعنى التحية والقول الحسن مراد به ثناء الملائكة على أهل ليلة القدر كدأبهم مع أهل الجنة فيما حكاه قوله تعالى : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار }
[ الرعد : 23 ، 24 ] .
وتنكير { سلام } للتعظيم . وأخبر عن الليلة بأنها سلام للمبالغة لأنه إخبار بالمصدر .
وتقديم المسند وهو { سلام } على المسند إليه لإِفادة الاختصاص ، أي ما هي إلا سلام . والقصر ادعائي لعدم الاعتداد بما يحصل فيها لغير الصائمين القائمين ، ثم يجوز أن يكون { سلام هي } مراداً به الإِخبار فقط ، ويجوز أن يراد بالمصدر الأمرُ ، والتقدير : سلِّمُوا سلاماً ، فالمصدر بدل من الفعل وعدل عن نصبه إلى الرفع ليفيد التمكن مثل قوله تعالى : { قالوا سلاماً قال سلام } [ الذاريات : 25 ] . والمعنى : اجعلوها سلاماً بينكم ، أي لا نزاع ولا خصام . ويشير إليه ما في الحديث الصحيح : « خرجتُ لأخْبِرَكم بليلة القدر فتلاحَى رجلان فرُفِعَتْ وعسى أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة » .
و { حتى مطلع الفجر } غاية لما قبله من قوله : { تنزل الملائكة } إلى { سلام هي } .
والمقصود من الغاية إفادة أن جميع أحيان تلك الليلة معمورة بنزول الملائكة والسلامة ، فالغاية هنا مؤكدة لمدلول { ليلة } [ القدر : 1 ] لأن الليلة قد تطلق على بعض أجزائها كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم « من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذَنْبه » أي من قام بعضها ، فقد قال سعيد بن المسيب : من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحَظه منها . يريد شهدها في جماعة كما يقتضيه فعل شهد ، فإن شهود الجماعة من أفضل الأعمال الصالحة .
وجيء بحرف { حتى } لإِدخال الغاية لبيان أن ليلة القدر تمتد بعد مطلع الفجر بحيث أن صلاة الفجر تعتبر واقعة في تلك الليلة لئلا يتوهم أن نهايتها كنهاية الفِطر بآخر جزء من الليل ، وهذا توسعة من الله في امتداد الليلة إلى ما بعد طلوع الفجر .
ويستفاد من غاية تَنَزُّللِ الملائكة فيها ، أن تلك غاية الليلة وغاية لما فيها من الأعمال الصالحة التابعة لكونها خيراً من ألف شهر ، وغاية السلام فيها .
وقرأ الجمهور : { مطلع } بفتح اللام على أنه مصدر ميمي ، أي طلوع الفجر ، أي ظهوره . وقرأه الكسائي وخَلف بكسر اللام على معنى زمان طلوع الفجر .