الوسيط للطنطاوي

تفسير الآية رقم 11 من سورة الرعد

ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر رعايته لعباده فقال- تعالى- لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ....
والضمير في لَهُ يعود إلى مِنْ في قوله مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ باعتبار تأويله بالمذكور.
و «معقبات» صفة لموصوف محذوف أى: ملائكة معقبات.
قال الشوكانى: «والمعقبات المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه ويكون بدلا منه.
وهم الحفظة من الملائكة في قول عامة المفسرين. قال الزجاج: المعقبات ملائكة يأتى بعضهم بعقب بعض، وإنما قال «معقبات» مع كون الملائكة ذكورا لأن الجماعة من الملائكة يقال لها معقبة، ثم جمع معقبة على معقبات.
قال الجوهري: والتعقب العود بعد البدء قال الله- تعالى- وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ .
يقال: عقب الفرس في عدوه، أى: جرى بعد جريه. وعقبه تعقيبا. أى: جاء عقبه.
و «من» في قوله مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بمعنى باء السببية.
والمعنى: لكل واحد من هؤلاء المذكورين ممن يسرون القول أو يجهرون به، ملائكة يتعاقبون عليه بالليل والنهار ويحيطون به من جميع جوانبه لحفظه ورعايته، ولكتابة أقواله وأعماله، وهذا التعقيب والحفظ، إنما هو بسبب أمر الله- تعالى- لهم بذلك.
قال ابن كثير: وفي الحديث الصحيح: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد الذين باتوا فيكم فيسألهم- سبحانه- وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟. فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون» .
وفي الحديث الآخر: «إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم» . أى: فاستحيوا منهم وأكرموهم بالتستر وغيره.
وقال عكرمة عن ابن عباس «يحفظونه من أمر الله، قال ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه» .
ثم ساق- سبحانه- سنة من سننه التي لا تتخلف فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ. وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ.
أى: إن الله- تعالى- قد اقتضت سنته، أنه- سبحانه- لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية وخير بضده، حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة إلى معصية ومن جميل إلى قبيح، ومن صلاح إلى فساد.
وإذا أراد- سبحانه- بقوم سوءا من عذاب أو هلاك أو ما يشبههما بسبب إيثارهم الغي على الرشد، فلا راد لقضائه، ولا دافع لعذابه.
وما لهم من دونه- سبحانه- من وال أى من ناصر ينصرهم منه- سبحانه- ويرفع عنهم عقابه، ويلي أمورهم ويلتجئون إليه عند الشدائد.
فالجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر عدل الله في شئون عباده، وتحذير شديد لهم من الإصرار على الشرك والمعاصي وجحود النعمة، فإنه- سبحانه- لا يعصم الناس من عذابه عاصم. ولا يدفعه دافع.
قال الإمام ابن كثير: «قال ابن أبى حاتم: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بنى إسرائيل أن قل لقومك إنه ليس من أهل قرية، ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله، فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا تحول الله لهم مما يحبون إلى ما يكرهون.
ثم قال: إن مصداق ذلك في كتاب الله إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ.
وعن عمير بن عبد الملك قال: خطبنا على بن أبى طالب على منبر الكوفة فقال: كنت إذا سكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأنى، وإذا سألته عن الخبر أنبأنى، وإنه حدثني عن ربه- عز وجل- قال: «قال الرب: وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتي، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي» .
ثم لفت- سبحانه- أنظار عباده إلى أنواع متعددة من الظواهر الكونية الدالة على قدرته ووحدانيته، وبين أن هذه الظواهر قد تكون نعما، وقد تكون نقما، وأنها وغيرها تسبح بحمد الله، وتخضع لسلطانه فقال- تعالى-: