الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 1 من سورة النحل
تعريف بسورة النحل
1- سورة النحل هي السورة السادسة عشرة في ترتيب المصحف، فقد سبقتها سور:
الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر.
أما في ترتيب النزول، فكان ترتيبها التاسعة والستين، وكان نزولها بعد سورة الكهف .
2- وعدد آياتها ثمان وعشرون ومائة آية.
3- وسميت بسورة النحل، لقوله- تعالى- فيها وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ... .
وتسمى- أيضا- بسورة النعم، لأن الله- تعالى- عدد فيها أنواعا من النعم التي أنعم بها على عباده.
4- وسورة النحل من السور المكية: أى التي كان نزولها قبل الهجرة النبوية الشريفة.
قال القرطبي: «وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده. وقيل: هي مكية إلا قوله- تعالى- وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ.. الآية. نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد..» «3» .
وقال الآلوسى: وأطلق جمع القول بأنها مكية، وأخرج ذلك ابن مردويه عن ابن عباس، وابن الزبير- رضى الله عنهم- وأخرجه النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها، فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف النبي- صلى الله عليه وسلم- من غزوة أحد .
والذي تطمئن إليه النفس، أن سورة النحل كلها مكية، وذلك لأن الروايات التي ذكروها في سبب نزول قوله- تعالى-، وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ.. إلخ السورة، فيها مقال. فقد ذكر الإمام ابن كثير عند سردها، أن بعضها مرسل وفيه مبهم، وبعضها في إسناده ضعف.. .
5- (أ) وإذا ما قرأنا سورة النحل بتدبر وتفكر، نراها في مطلعها تؤكد أن يوم القيامة حق، وأنه آت لا ريب فيه، وأن المستحق للعبادة والطاعة إنما هو الله الخالق لكل شيء.
قال- تعالى-: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ.
(ب) تم تسوق ألوانا من الأدلة على وحدانية الله وقدرته، عن طريق خلق السموات والأرض وخلق الإنسان والحيوان، وعن طريق إنزال الماء من السماء، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم.. وغير ذلك من النعم التي لا تحصى.
استمع إلى بعض هذه الآيات التي تحكى جانبا من هذه النعم فتقول: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
ثم تقول: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ. أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
(ج) وبعد أن توبخ السورة المشركين لتسويتهم بين من يخلق ومن لا يخلق تحكى جانبا من أقاويلهم الباطلة التي وصفوا بها القرآن الكريم، وتصور استسلامهم لقضاء الله العادل فيهم يوم الحساب، فتقول: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ.
إلى أن تقول: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.
(د) وكعادة القرآن الكريم في قرنه الترهيب بالترغيب، وفي عقده المقارنات بين مصير المؤمنين ومصير الكافرين، جاءت الآيات بعد ذلك لتبشر المتقين بحسن العاقبة.
جاء قوله- تعالى-: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ.
(هـ) ثم تعود السورة الكريمة مرة أخرى إلى حكاية أقوال المشركين حول مسألتين من أخطر المسائل، وهما مسألة الهداية والإضلال، ومسألة البعث بعد الموت بعد أن حكت ما قالوه في شأن القرآن الكريم.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى أقوالهم ثم يرد عليها بما يبطلها فيقول: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ.
(و) ثم تهدد السورة الكريمة أولئك الجاحدين لنعم الله، الماكرين للسيئات، بأسلوب يستثير النفوس ويبعث الرعب في القلوب، وتدعوهم إلى التأمل والتفكر في ملكوت السموات والأرض، لعل هذا التفكر يكون سببا في هدايتهم، وتخبرهم بأن الله- تعالى- هو الذي نهاهم عن الشرك، وهو الذي أمرهم بإخلاص العبادة له.
استمع إلى القرآن وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البديع فيقول: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.
(ز) ثم انتقلت السورة إلى سرد أنواع من جهالات المشركين، ومن سوء تفكيرهم، حتى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ويشكروا الله- تعالى- على توفيقه إياهم إلى الدخول في الإسلام.
لقد ذكرت السورة الكريمة ألوانا متعددة من جهالات الكافرين، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ، تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ. وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ، وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ.
(ح) هكذا تصور سورة النحل ما كان عليه المشركون من غباء وغفلة وسوء تفكير، ثم تعود- سورة النعم- مرة أخرى إلى الحديث عن نعم الله- تعالى- على عباده، فتتحدث عن نعمة الكتاب، وعن نعمة الماء، وعن نعمة الأنعام، وعن نعمة الثمار والفواكه، وعن نعمة العسل المتخذ من بطون النحل وعن نعمة التفاضل في الأرزاق، وعن نعمة الأزواج والبنين والحفدة.
قال- تعالى-: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً، نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ.
إلى أن يقول- سبحانه-: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ.
(ط) ثم تسوق السورة الكريمة مثلين مشتملين على الفرق الشاسع، بين المؤمن والكافر، وبين الإله الحق والآلهة الباطلة، فتقول: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً، هَلْ يَسْتَوُونَ؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
(ى) وبعد إيراد هذين المثلين البليغين، تعود سورة النعم إلى الحديث عن أنواع أخرى من نعم الله على خلقه، لكي يشكروه عليها، ويستعملوها فيما خلقت له فتتحدث عن نعمة إخراج الإنسان من بطن أمه، وعن نعمة البيوت التي هي محل سكن الإنسان، وعن نعمة الظلال، وعن نعمة الجبال، وعن نعمة الثياب.
قال- تعالى-: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ، وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها، أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً، وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ، كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ.
(ك) ثم بعد أن تصور السورة الكريمة أحوال المشركين يوم القيامة عند ما يرون العذاب، وتحكى ما يقولون عند ما يرون شركاءهم، وتقرر أن الله يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- سيكون شهيدا على من بعث إليهم.
بعد كل ذلك تسوق السورة الكريمة عددا من الآيات الآمرة بمكارم الأخلاق والناهية عن منكراتها فتقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ.
(ل) وبعد هذه التوجيهات السامية المشتملة على الترغيب والترهيب، وعلى الأوامر والنواهي. تتحدث آيات السورة عن آداب تلاوة القرآن وعن الشبهات التي أثارها المشركون حوله مع الرد عليها بما يدحضها، وعن حكم من تلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، فتقول: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.
ثم تقول: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.
ثم تقول: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
(م) ثم تعود السورة الكريمة لضرب الأمثال، فتسوق مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم بالنعم فلم يقابلوها بالشكر، فانتقم الله- تعالى- منهم. كما تسوق جانبا من حياة سيدنا إبراهيم كمثال للشاكرين الذين استعملوا نعم الله فيما خلقت له.
استمع إلى قوله- تعالى-: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.
ثم إلى قوله- تعالى-: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
(ن) وأخيرا تختتم السورة الكريمة بتلك الآيات الجامعة لأحكم الأساليب وأكملها وأجملها وأ نجمعها في الدعوة إلى الله- تعالى- وفي معاملة الناس فتقول: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
6- وبعد، فهذا عرض إجمالى لأهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة، ومنه نرى:
(أ) عنايتها الفائقة بإقامة الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وعلى صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته، وعلى أن يوم القيامة حق، وعلى أن القرآن من عند الله- عز وجل.
(ب) كما نرى تفصيلها القول في بيان آلاء الله- تعالى- على خلقه، وقد سبحت السورة في هذا الجانب سبحا عظيما، فذكّرت الإنسان بنعمة خلقه، وبنعمة تسخير الأنعام والشمس، والقمر، والنجوم، والماء، والجبال، والأشجار.. كل ذلك وغيره لمنفعته ومصلحته.
(ج) كما نلمس اهتمامها بضرب الأمثال للمؤمن والكافر، والشاكر والجاحد والإله الحق والآلهة الباطلة.. وذلك لأن في ضرب الأمثال تقريبا للبعيد وتوضيحا للخفى، بأسلوب من شأنه أن يكون أوقع في القلوب، وأثبت في النفوس وأدعى إلى التدبر والتفكر.
(د) كما ندرك حرصها على إيراد أقوال المشركين وشبههم! ثم الرد عليها بطريقة تقنع العقول، وترضى العواطف، بأن الإسلام هو الدين الحق، وبذلك يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم.
(هـ) كما نحس- عند قراءتها- بعنايتها بتوجيه المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وأمهات الفضائل، كالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، والوفاء، والصبر، والشكر ... وبنهيهم عن الرذائل كالغدر والجحود، ونقض العهود، والاستكبار، والظلم.
وأخيرا فإن المتأمل في هذه السورة- أيضا- يراها حافلة بأسلوب الترغيب والترهيب، والتبشير والإنذار، والوعد والوعيد.
الوعيد للكافرين بسوء المصير إذا ما لجوا في ضلالهم وطغيانهم كما في قوله- تعالى-:
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ.
والوعد للمؤمنين بالحياة الطيبة في الدارين، كما في قوله- تعالى-: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
والآن فلنبدأ في التفسير التحليلى لسورة النعم، ونسأل الله- تعالى- أن يرزقنا التوفيق والسداد.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
افتتحت السورة الكريمة، بتهديد الكافرين الذين كانوا ينكرون البعث، وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب، ويستبعدون نصر الله- تعالى- لأوليائه، فقال- تعالى-: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ والفعل «أتى» هنا، بمعنى قرب ودنا بدليل «فلا تستعجلوه» ، لأن المنهي عن الاستعجال يقتضى أن الأمر الذي استعجل حصوله لم يحدث بعد.
والمراد بأمر الله: ما اقتضته سنته وحكمته- سبحانه- من إثابة المؤمنين ونصرهم، وتعذيب الكافرين ودحرهم.
والفاء في قوله «فلا تستعجلوه» للتفريع. والاستعجال: طلب حصول الشيء قبل وقته.
والضمير المنصوب في «تستعجلوه» يعود على «أمر الله» ، لأنه هو المتحدث عنه، أو على «الله» - تعالى-، فلا تستعجلوا الله فيما قضاه وقدره.
والمعنى: قرب ودنا مجيء أمر الله- تعالى- وهو إكرام المؤمنين بالنصر والثواب، وإهانة الكافرين بالخسران والعقاب، فلا تستعجلوا- أيها المشركون- هذا الأمر، فإنه آت لا ريب فيه، ولكن في الوقت الذي يحدده الله تعالى- ويشاؤه.
وعبر عن قرب إتيان أمر الله- تعالى- بالفعل الماضي «أتى» للإشعار بتحقق هذا الإتيان، وللتنويه بصدق المخبر به، حتى لكأن ما هو واقع عن قريب، قد صار في حكم الواقع فعلا. وفي إبهام أمر الله، إشارة إلى تهويله وتعظيمه، لإضافته إلى من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
قوله «فلا تستعجلوه» زيادة في الإنذار والتهديد، أى: فلا جدوى من استعجالكم، فإنه نازل بكم سواء استعجلتم أم لم تستعجلوا.
والظاهر أن الخطاب هنا للمشركين، لأنهم هم الذين كانوا يستعجلون قيام الساعة، ويستعجلون نزول العذاب بهم، وقد حكى القرآن عنهم ذلك في آيات:
منها قوله- تعالى-: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ .
ومنها قوله- سبحانه-: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ. وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ .
وقال بعض العلماء: و «يجوز أن يكون الخطاب هنا شاملا للمؤمنين، لأن عذاب الله- تعالى- وإن كان الكافرون يستعجلونه، تهكما به، لظنهم أنه غير آت، فإن المؤمنين يضمرون في نفوسهم استبطاءه، ويحبون تعجيله للكافرين» .
وقوله: «سبحانه وتعالى عما يشركون» جملة مستأنفة، قصد بها إبطال إشراكهم، وزيادة توبيخهم وتهديدهم:
أى: تنزه الله- تعالى- وتعاظم بذاته وصفاته، عن إشراك المشركين، المؤدى بهم إلى الأقوال الفاسدة، والأفعال السيئة، والعاقبة الوخيمة. والعذاب المهين. وقوله:
«يشركون» : قراءة الجمهور، وفيها التفات من الخطاب في قوله «فلا تستعجلوه» إلى الغيبة، تحقيرا لشأن المشركين، وحطا من درجتهم عن رتبة الخطاب، وحكاية لشنائعهم التي يتبرأ منها العقلاء.
وقرأ حمزة والكسائي «تشركون» تبعا لقوله- تعالى- فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ وعلى قراءتهما لا التفات في الآية.