الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 86 من سورة النحل
ثم حكى سبحانه بعض ما يدور بينهم وبين معبوداتهم الباطلة يوم القيامة، فقال- تعالى-: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ، قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ...
قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ أى: أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها، وذلك أن الله يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار. وفي صحيح مسلم: «من كان يعبد شيئا فليتبعه» فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ... ».
وقال الآلوسى: والمراد بشركائهم: كل من اتخذوه شريكا له- عز وجل- من صنم، ووثن، وشيطان، وآدمي، وملك.. وإضافتهم إلى ضمير المشركين لهذا الاتخاذ- أى لاتخاذهم إياهم شركاء لله في العبادة- أو لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم وأنعامهم» .
أى: وإذا أبصر المشركون يوم القيامة شركاءهم الذين أشركوهم مع الله- تعالى- في العبادة، «قالوا» أى المشركون على سبيل التحسر والتفجع يا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا في الدنيا نعبدهم من دونك، ونتقرب بهم إليك، فلا تجعل يا ربنا العذاب علينا وحدنا بل خففه أو ارفعه عنا فهؤلاء الشركاء هم الذين أضلونا.
قال أبو مسلم: ومقصود المشركين بهذا القول إحالة الذنب على تلك الأصنام تعللا بذلك واسترواحا، مع كونهم يعلمون أن العذاب واقع بهم لا محالة، ولكن الغريق يتعلق بكل ما تقع يده عليه .
وقوله- تعالى-: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ حكاية لما رد به الشركاء على المشركين. أى: فرد أولئك الشركاء من الأصنام وغيرها على المشركين بقولهم: إنكم لكاذبون- أيها المشركون- في إحالتكم الذنب علينا، فإننا ما دعوناكم لعبادتنا، ولا أجبرناكم على الإشراك بالله- تعالى-، ولكنكم أنتم الذين اخترتم هذا الطريق المعوج، تقليدا لآبائكم واستجابة لأهوائكم وشهواتكم، وإيثارا للباطل على الحق وما رد به الشركاء على المشركين هنا، قد جاء ما يشبهه في آيات كثيرة، منها قوله- تعالى-: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا .
وقوله- تعالى-: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ.. .
قال القرطبي: وقوله- تعالى-: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ... أى: ألقت إليهم الآلهة القول، أى: نطقت بتكذيب من عبدها. بأنها لم تكن آلهة، ولا أمرتهم بعبادتها، فينطق الله الأصنام حتى تظهر عند ذلك فضيحة الكفار .
وقال الجمل: فإن قلت: كيف أثبت للأصنام نطقا هنا، ونفاه عنها في قوله- تعالى- في سورة الكهف: وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ...
فالجواب: أن المثبت لهم هنا النطق بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم لها، والمنفي عنهم في الكهف النطق بالإجابة إلى الشفاعة لهم ودفع العذاب عنهم فلا تنافى.
والتعبير بقوله- تعالى-: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ... يشعر بأن الشركاء قد ردوا على المشركين قولهم بسرعة وبدون إبطاء حيث أتى- سبحانه- بالفاء في قوله فَأَلْقَوْا واشتملت جملة «إنكم لكاذبون» على جملة من المؤكدات، لإفحام المشركين، وتكذيبهم في قولهم تكذيبا قاطعا لا يحتمل التأويل.