الوسيط للطنطاوي

تفسير الآية رقم 17 من سورة الإسراء

ثم بين- سبحانه- أن هذه القرية لم تكن بدعا في نزول العذاب بها، بل هناك قرى كثيرة عتت عن أمر ربها فأخذها- سبحانه- أخذ عزيز مقتدر، فقال- تعالى-: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ....
وكَمْ هنا خبرية أى: أن معناها الإخبار عن عدد كثير، وهي في محل نصب مفعول به لجملة أَهْلَكْنا و «من» في قوله- تعالى-: مِنَ الْقُرُونِ بيان للفظ كَمْ وتمييز له كما يميز العدد بالجنس. وأما «من» في قوله- تعالى-: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ فهي لابتداء الغاية.
والقرون: جمع قرن، ويطلق على القوم المقترنين في زمان واحد. والمشهور أن مدته مائة سنة.
أى: أن هذه القرية المدمرة بسبب فسوق أهلها، وعصيانهم لأمرنا، ليست هي القرية الوحيدة التي نزل بها عذابنا، بل إننا قد أهلكنا كثيرا من القرى من بعد زمن نوح- عليه السلام- كقوم عاد وثمود وغيرهم ممن استحبوا العمى على الهدى، وآثروا الكفر على الإيمان والغي على الرشد.
وخص نوح- عليه السلام- بالذكر، لأنه أول رسول كذبه قومه وآذوه وسخروا منه..
فأهلكهم الله- تعالى- بالطوفان.
قال ابن كثير: ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام، كما قاله ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالتهديد الشديد لمن يخالف أمره فقال- تعالى-:
وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً.
أى: وكفى بربك- أيها الرسول الكريم- إحاطة واطلاعا وعلما بما يقدمه الناس من خير أو شر، فإنه- سبحانه- يعلم السر وأخفى.
والآية الكريمة بجانب أنها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم فهي- أيضا- تهديد للمشركين، وإنذار لهم بأنهم إذا ما استمروا على كفرهم، ومعاداتهم للحق، وتطاولهم على من جاء به وهو الرسول صلى الله عليه وسلم فسيكونون محلا لغضب الله- تعالى- وسخطه، ولنزول عذابه الذي أهلك به أمثالهم في الشرك والكفر والجحود.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها .
وقوله- تعالى-: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ .