الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 31 من سورة الإسراء
وقوله- سبحانه-: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ... نهى عن قتل الأولاد بعد بيان أن الأرزاق بيده- سبحانه-، يبسطها لمن يشاء، ويضيقها على من يشاء.
والإملاق: الفقر. يقال: أملق الرجل إذا افتقر قال الشاعر:.
وإنى على الإملاق يا قوم ماجد ... أعد لأضيافى الشواء المصهبا
قال الآلوسى: وظاهر اللفظ النهى عن جميع أنواع قتل الأولاد، ذكورا كانوا أو إناثا مخافة الفقر والفاقة.
لكن روى أن من أهل الجاهلية من كان يئد البنات مخافة العجز عن النفقة عليهن، فنهى في الآية عن ذلك، فيكون المراد بالأولاد البنات، وبالقتل الوأد.. .
أى: ولا تقتلوا- أيها الآباء- أولادكم خشية فقر متوقع، فنحن قد تكفلنا برزقهم ورزقكم، وأرزاق غيركم من مخلوقاتنا التي لا تحصى.
قال- تعالى-: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها ...
ولا شك أن الحياة حق لهؤلاء الصغار كما أنها حق لكم، فمن الظلم البين الاعتداء على حقوقهم، والتخلص منهم خوفا من الفقر المتوقع في المستقبل، مع أن الله- تعالى- هو الرازق لهم ولكم في كل زمان ومكان.
وقد ورد النهى عن قتل الأولاد هنا بهذه الصيغة، وورد في سورة الأنعام بصيغة أخرى، هي قوله- تعالى-: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.
وليست أحدهما تكرارا للأخرى وإنما كل واحدة منهما تعالج حالة معينة.
فهنا يقول- سبحانه-: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ لأن النهى موجه بالأصالة إلى الموسرين الذين يقتلون أولادهم لا من أجل فقر كائن فيهم، وإنما من أجل فقر هم يتوهمون حصوله في المستقبل بسبب الأولاد، لذا قال- سبحانه- نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ فقدم رزق الأولاد لأنهم سبب توقع الفقر، في زعم آبائهم- لكي يمتنع الآباء عن هذا التوقع ولكي يضمن للأولاد رزقهم ابتداء مستقلا عن رزق الآباء.
وقال- سبحانه- هناك مِنْ إِمْلاقٍ لأن النهى متوجه أصالة إلى الآباء المعسرين:
أى لا تقتلوهم بسبب الفقر الموجود فيكم- أيها الآباء-، فقد يجعل الله بعد عسر يسرا.
ولذا قال- سبحانه-: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فجعل الرزق للآباء ابتداء. لكي يطمئنهم- سبحانه- على أنه هو الكفيل برزقهم وبرزق أولادهم.
وفي كلتا الحالتين، القرآن الكريم ينهى عن قتل الأولاد، ويغرس في نفوس الآباء الثقة بالله- تعالى- والاعتماد عليه.
وجمله نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ تعليل للنهى عن قتل الأولاد، بإبطال موجبه- في زعمهم- وهو الفقر.
أى: نحن نرزقهم لا أنتم، ونرزقكم أنتم معهم، وما دام الأمر كذلك فلا تقدموا على تلك الجريمة النكراء: وهي قتل الأولاد، لأن الأولاد، قطعة من أبيهم، والشأن- حتى في الحيوان الأعجم- أنه يضحى من أجل أولاده ويحميهم، ويتحمل الصعاب في سبيلهم.
وقوله إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً تعليل آخر للنهى عن قتل الأولاد جيء به على سبيل التأكيد.
والخطء: هو الإثم- وزنا ومعنى-، مصدر خطئ خطئا كأثم إثما من باب علم.
أى: أن قتل الأولاد كان عند الله- تعالى- إثما كبيرا فاحشا، يؤدى إلى التعاسة والشقاء في الدنيا والآخرة:
والحق أن المجتمع الذي يبيح قتل الأولاد، خوفا من الفقر أو العار، لا يمكن أن يصلح شأنه، لأنه مجتمع نفعي تسوده الأثرة والأنانية والتشاؤم والأوهام، لأن أفراده يظنون أن الله يخلق خلقا لا يدبر لهم رزقهم، ويعتدون على روح بريئة طاهرة، تخوفا من فقر أو عار مترقب، وذلك هو الضلال المبين.
ورحم الله الإمام الرازي فقد قال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: إن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر، فهو سوء ظن بالله. وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعى في تخريب العالم. فالأول: ضد التعظيم لأمر الله- تعالى- والثاني: ضد الشفقة على خلقه، وكلاهما مذموم .
ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم برعاية الأبناء، وحذر من الاعتداء عليهم في أحاديث كثيرة، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت يا رسول الله، أى الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أى؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أى؟ قال: أن تزنى بحليلة جارك .