الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 16 من سورة الكهف
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما تناجوا به فيما بينهم ، بعد أن وضح موقفهم وضوحا صريحا حاسما ، وبعد أن أعلنوا كلمة التوحيد بصدق وقوة . . فقال - تعالى - : ( وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله فَأْوُوا إِلَى الكهف يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً ) .
و " إذ " يبدو أنها هنا للتعليل . والاعتزال : تجنب الشئ سواء أكان هذا التجنب بالبدن أم بالقلب . و " ما " فى قوله ( وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله ) اسم موصول فى محل نصب معطوف على الضمير فى قوله ( اعتزلتموهم ) وقوله : ( إلا الله ) استثناء متصل ، بناء على أن القوم كانوا يعبدون الله - تعالى - ويشكرون معه فى العبادة الأصنام . و " من " قالوا إنها بمعنى البدلية .
وقوله : ( مرفقاً ) من الارتفاق : بمعنى الانتفاع ، وقرأ نافع وابن عامر مرفقا - بفتح الميم وكسر الفاء .
.
والمعنى: أن هؤلاء الفتية بعد أن أعلنوا كلمة التوحيد، وعقدوا العزم على مفارقة قومهم المشركين تناجوا فيما بينهم وقالوا: ولأجل ما أنتم مقدمون عليه من اعتزالكم لقومكم الكفار، واعتزالكم الذي يعبدونه من دون الله لأجل ذلك فالجأوا إلى الكهف، واتخذوه مأوى ومستقرا لكم، ينشر لكم ربكم الكثير من الخير بفضله ورحمته، ويهيئ لكم بدلا من أمركم الصعب. أمرا آخر فيه اليسر والنفع.
وفي التعبير بقولهم- كما حكى القرآن عنهم.. يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ.. دلالة واضحة على صدق إيمانهم وحسن ظنهم الذي لا حدود له، بربهم- عز وجل- فهم عند ما فارقوا أهليهم وأموالهم وزينة الحياة، وقرروا اللجوء إلى الكهف الضيق الخشن المظلم.. لم ييأسوا من رحمة الله، بل أيقنوا أن الله- تعالى- سيرزقهم فيه الخير الوفير، وييسر لهم ما ينتفعون به، ببركة إخلاصهم وصدق إيمانهم.
وهكذا الإيمان الصادق، يجعل صاحبه يفضل المكان الخالي من زينة الحياة، من أجل سلامة عقيدته، على المكان المليء باللين والرخاء الذي يحس فيه بالخوف على عقيدته.
فالآية الكريمة تدل على أن اعتزال الكفر والكافرين من أجل حماية الدين، يؤدى إلى الظفر برحمة الله وفضله وعطائه العميم وصدق الله إذ يقول في شأن إبراهيم- عليه السلام- وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا. وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا .
ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن أحوال هؤلاء الفتية بعد أن استقروا في الكهف وبعد أن ألقى الله- تعالى- عليهم بالنوم الطويل فتقول: