الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 71 من سورة مريم
ثم بين- سبحانه- أن الجميع سيرد جهنم، فقال: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا.
وللعلماء أقوال متعددة في المراد بقوله- تعالى- وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها.
فمنهم من يرى أن المراد بورودها: دخولها فجميع الناس مؤمنهم وكافرهم يدخلونها، إلا أن النار تكون بردا وسلاما على المؤمنين عند دخولهم إياها، وتكون لهيبا وسعيرا على غيرهم.
ومنهم من يرى أن المراد بورودها: رؤيتها والقرب منها والإشراف عليها دون دخولها. كما في قوله- تعالى- وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أى: أشرف عليه وقاربه.
ومنهم من يرى أن المراد بورودها، خصوص الكافرين، أى: أنهم وحدهم هم الذين يردون عليها ويدخلونها. أما المؤمنون فلا يردون عليها ولا يدخلونها.
ويبدو لنا أن المراد بالورود هنا: الدخول، أى: دخول النار بالنسبة للناس جميعا إلا أنها تكون بردا وسلاما على المؤمنين، وهناك أدلة على ذلك منها.
أن هناك آيات قرآنية جاء فيها الورود، بمعنى الدخول، ومن هذه الآيات قوله- تعالى-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ. وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ .
ومعنى فأوردهم: فأدخلهم.
يضاف إلى ذلك أن قوله- تعالى- بعد هذه الآية: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا قرينة قوية على أن المراد بقوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها.. أى: داخلها سواء أكان مؤمنا أم كافرا، إلا أنه- سبحانه- بفضله وكرمه ينجى الذين اتقوا من حرها، ويترك الظالمين يصطلون بسعيرها.
كذلك مما يشهد بأن الورود بمعنى الدخول، ما أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي، وابن المنذر، وابن أبى حاتم، والحاكم ... عن أبى سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن، وقال آخرون يدخلونها جميعا، ثم ينجى الله الذين اتقوا.
قال: فلقيت جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما- فذكرت له ذلك فقال- وأهوى بإصبعه على أذنيه- صمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما، كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجا من بردهم، ثم ينجى الله الذين اتقوا، ويذر الظالمين فيها جثيا» .
ولا يمنع من كون الورود بمعنى الدخول قوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها.. لأن دخول المؤمنين فيها لا يجعلهم يشعرون بحرها أو حسيسها، وإنما هي تكون بردا وسلاما عليهم، كما جاء في الحديث الشريف.
قال الإمام القرطبي بعد أن توسع في ذكر هذه الأقوال: «وظاهر الورود الدخول..
إلا أنها تكون بردا وسلاما على المؤمنين، وينجون منها سالمين. قال خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا: ألم يقل ربنا: إنا نرد النار فيقال لهم: لقد وردتموها فألفيتموها رمادا.
قلت: وهذا القول يجمع شتات الأقوال، فإن من وردها ولم تؤذه بلهبها وحرها، فقد أبعد عنها ونجى منها، نجانا الله- تعالى- منها بفضله وكرمه، وجعلنا ممن وردها فدخلها سالما، وخرج منها غانما.
فإن قيل: فهل يدخل الأنبياء النار؟ قلنا: لا نطلق هذا، ولكن نقول: إن الخلق جميعا يردونها- كما دل عليه حديث جابر- فالعصاة يدخلونها بجرائمهم، والأولياء والسعداء لشفاعتهم، فبين الدخولين بون..» .
والمعنى: وما منكم- أيها الناس- أحد إلا وهو داخل النار، سواء أكان مسلما أم كافرا، إلا أنها تكون بردا وسلاما على المؤمنين. وهذا الدخول فيها كان على ربك أمرا واجبا ومحتوما، بمقتضى حكمته الإلهية، لا بإيجاب أحد عليه.