الوسيط للطنطاوي

تفسير الآية رقم 43 من سورة البقرة

وبعد أن أمرهم - سبحانه - بأصل الدين الذي هو الإِيمان به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أردفه بركنين من أركانه العملية ، إذا قاموا بهما لانت قلوبهم للحق ، وانعطفت نفوسهم نحو خشية الله وحده ، فقال تعالى : ( وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واركعوا مَعَ الراكعين ) والمراد بإقامة الصلاة ، أداؤها مستوفية لأركانها وشرائطها وآدابها . والمراد بإيتاء الزكاة دفعها لمستحقيها كاملة غير منقوصة .
والمعنى : عليكم يا معشر اليهود أن تحافظوا على أداء الصلاة ، التي هي أعظم العبادات البدنية ، وعلى إيتاء الزكاة التي هي أعظم العبادات المالية ، وأن تخضعوا لما يلزمكم في دين الله - تعالى - لأن في محافظتكم على هذه العبادات تطهيراً لقلوبكم ، وتأليفاً لنفوسكم ، وتزكية لمشاعركم ، ولأنكم إن لم تحافظوا عليها كما أمركم الله - تعالى - فسيلحقكم الخزي في الدنيا ، والعذاب في الأخرى .
هذا ، ونرى من المناسب أن نختم تفسير هذه الآيات الكريمة ، وبيان ما اشتملت عليه من توجيه سليم ، وتركيب بليغ ، بما قاله أبو حيان في تفسيره ، فقال قال - رحمه الله - :
" وفي هذه الجمل - وإن كانت معطوفات بالواو التي لا تقتضي في الوضع ترتيباً - ترتيبٌ عجيب من الفصاحة ، وبناء الكلام بعضه على بعض ، وذلك أنه تعالى أمرهم أولا بذكر النعمة التي أنعمها عليهم ، إذ في ذلك ما يدعو إلى محبة المنعم ووجوب طاعته : ثم أمرهم بإيفاء العهد الذي التزموه للمنعم ، ثم رغبهم بترتيب إيفائه هو تعالى بعهدهم في الإِيفاء بالعهد ، ثم أمرهم بالخوف من نقمة إن لم يوفوا ، فاكتنف الأمر بالإِيفاء أمر بذكر النعمة والإِحسان ، وأمر بالخوف من العصيان .
ثم أعقب ذلك بالأمر بإِيمان خاص وهو ما أنزل من القرآن ، ورغب في ذلك بأنه مصدق لما معهم ، فليس أمراً مخالفاً لما في أيديهم ، لأن الانتقال إلى الموافق أقرب من الانتقال إلى المخالف ثم نهاهم عن استبدال الخسيس بالنفيس ، ثم أمرهم - تعالى - باتقائه ثم أعقب ذلك بالنهي عن لبس الحق بالباطل ، وعن كتم الحق ، فكان الأمر بالإِيمان أمراً بترك الضلال ، والنهي عن لبس الحق بالباطل ، وكتمان الحق تركاً للإِضلال .
ولما كان الضلال ناشئاً عن أمرين :
إما تمويه الباطل حقاً ، إن كانت الدلائل قد بلغت المستمع ، وإما عن كتمان الدلائل إن كانت لم تبلغه ، أشار إلى الأمرين بلا تلبسوا وتكتموا ، ثم قبح عليهم هذين الوصفين مع وجود العلم ، ثم أمرهم بعد تحصيل الإِيمان ، وإظهار الحق بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، لأن الصلاة آكد العبادات البدنية ، والزكاة آكد العبادات المالية ثم ختم ذلك بالأمر بالانقياد والخضوع له - تعالى - مع جملة الخاضعين الطائعين .
فكان افتتاح هذه الآيات بذكر النعم واختتامها بالانقياد للمنعم ، وما بينهما من تكاليف اعتقادية ، وأفعال بدنية ومالية ، وبنحو ما تضمنته هذه الآيات من الافتتاح والإِرداف والاختتام يظهر فضل كلام الله - تعالى - على سائر الكلام ، وهذه الأوامر والنواهي ، وإن كانت خاصة ببني إسرائيل في الصورة ، إلا أنها عامة في المعنى ، فيجب على كل مكلف في كل زمان ومكان أن يعمل به " .
وبعد كل هذه الأوامر والنواهي ، وبخهم الله - تعالى - وقرعهم على ارتكابهم لأمور لا تصدر عن عاقل . وهي أنهم يأمرون الناس بالخير ولا يفعلونه ، فقال تعالى :
( أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ . . . )