الوسيط للطنطاوي

تفسير الآية رقم 10 من سورة النور

ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات ببيان جانب من فضله - تعالى - على خلقه فقال : ( وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) .
وجواب " لولا " محذوف . وجاءت الآية بأسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، للعناية بشأن مقام الامتنان والفضل من الله - تعالى - عليهم بتشريع هذه الأحكام .
أى : ولوا أن الله - تعالى - تفضل عليكم ورحمكم - أيها المؤمنون - بسبب ما شرعه لكم فى حكم الذين يرمون أزواجهم بالفاحشة . . . لولا ذلك لحصل لكم من الفضيحة ومن الحرج ما لا يحيط به الوصف ، ولكنه - سبحانه - شرع هذه الأحكام سترا للزوجين ، وتخفيفا عليهما . وحضا لهما على التوبة الصادقة النصوح ، وأن الله - تعالى - " تواب " أى : كثير القبول لتوبة التائب متى صدق فيها ، " حكيم " أى : فى كل ما شرعه لعباده .
هذا ، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآيات ، أن قاذف زوجته بفاحشة الزنا ، إذا لم يأت بأربعة شهداء على صحة ما قاله . فإنه يكون مخيرا بين أن يلاعن ، وبين أن يقام عليه الحد .
بخلاف من قذف أجنبية محصنة بفاحشة الزنا ، فإنه يقام عليه الحد ، إذا لم يأت بأربعة شهداء على أنه صادق فى قوله .
قال بعض العلماء : ولعلك تقول : لماذا كان حكم قاذف زوجته ، مخالفا لكم قاذف الأجنبية؟ وما السر فى أنه جاء مخففا؟
والجواب : أنه لا ضرر على الزوج بزنا الأجنبية؟ وأما زنا زوجته فيلحقه به العار . وفساد البيت . فلا يمكنه الصبر عليه ، ومن الصعب عليه جدا أن يجد البينة . فتكليفه إياها فيه من العسر والحرج ما لا يخفى . وأيضا فإن الغالب فى الرجل أنه لا يرمى زوجته بتلك الفاحشة ، إلا عن حقيقة . لأن فى هذا الرمى إيذاء له ، وهتكا لحرمته ، وإساءة لسمعته . . . فكان رميه إياها بالقذف دليل صدقه . إلا أن الشارع أراد كمال شهادة الحال . بذكر كلمات اللعان المؤكدة بالأيمان ، فجعلها - منضمة إلى قوة جانب الزوج - قائمة مقام الشهود فى قذف الأجنبى " .
كذلك أخذ العلماء من هذه الآيات أن كيفية اللعان بين الزوجين ، أن يبدأ بالزوج فيقول أمام القاضى : أشهد بالله إنى لمن الصادقين ، وفى المرة الخامسة يقول : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين - أى فيما رمى به زوجته - ، وكذلك المرأة تقول فى لعانها أربع مرات : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين . وفى المرة الخامسة تقول : غضب الله عليها إن كان من الصادقين - أى فيما قاله زوجها فى حقها - .
فإذا ما قالا ذلك . سقط عنهما الحد ، وفرق القاضى بينهما فراقا أبديا .
قال القرطبى : " قال مالك وأصحابه : وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبدا . ولا يتوارثان . ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل زوج ولا بعده .
وقال أبو حنيفة وغيره : لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما .
وقال الشافعى : إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان : فقد زال فراش امرأته . التعنت أو لم تلتعن . لأن لعانها إنما هو لدرء الحد عنها لا غير . وليس لالتعانها فى زوال الفراش معنى . . . " .