الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 12 من سورة النمل
ثم أرشد- سبحانه- موسى- عليه السلام- إلى معجزة أخرى. لتكون دليلا على صدقه في رسالته إلى من سيرسله إليهم فقال: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ.
والمراد بجيبه: فتحة ثوبه أو قميصه عند مدخل رأسه، أو عند جانبه الأيمن، وأصل الجيب: القطع. يقال: جاب الشيء إذا قطعه.
والمعنى: وأدخل يا موسى يدك اليمنى في فتحة ثوبك، ثم أخرجها تراها تخرج بيضاء من غير سوء. أى: تخرج منيرة مشرقة واضحة البياض دون أن يكون بها أى سوء من مرض أو برص أو غيرهما، وإنما يكون بياضها بياضا مشرقا مصحوبا بالسلامة بقدرة الله- تعالى- وإرادته.
قال الحسن البصري: أخرجها- والله- كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقى ربه.
وقوله: تَخْرُجْ جواب الأمر في قوله: وَأَدْخِلْ، وبَيْضاءَ حال من فاعل تخرج، ومِنْ غَيْرِ سُوءٍ يجوز أن يكون حالا أخرى. أو صفة لبيضاء.
والمراد باليد هنا: كف يده اليمنى. والسوء: الرديء والقبيح من كل شيء، وهو هنا كناية عن البرص لشدة قبحه.
وقوله- تعالى-: فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ يصح أن يكون حالا ثالثة من فاعل تَخْرُجْ فيكون المعنى: وأدخل يا موسى يدك في جيبك تخرج حالة كونها بيضاء.
وحالة كونها من غير سوء، وحالة كونها مندرجة أو معدودة في ضمن تسع آيات زودناك بها، لتكون معجزات لك أمام فرعون وقومه، على أنك صادق فيما تبلغه عن ربك.
قال الجمل «وقوله: فِي تِسْعِ آياتٍ فيه وجوه: أحدها: أنه حال ثالثة يعنى من فاعل تخرج، أى: آية في تسع آيات. الثاني: أنه متعلق بمحذوف أى: اذهب في تسع آيات ... » .
والمراد بالآيات التسع التي أعطاها الله- تعالى- لموسى- عليه السلام-: العصا، واليد، والسنون، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. كما جاء ذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم.
وقد جاء الحديث عن هذه الآيات في مواضع أخرى من القرآن الكريم منها قوله- تعالى-: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ .
وقوله- سبحانه-: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ . وقوله- عز وجل-: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ .
وقال- تعالى-: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ، وَالْجَرادَ، وَالْقُمَّلَ، وَالضَّفادِعَ، وَالدَّمَ.. .
وتحديد الآيات بالتسع، لا ينفى أن هناك معجزات أخرى، أعطاها الله- تعالى- لموسى- عليه السلام- إذ من المعروف عند علماء الأصول أن تحديد العدد بالذكر، لا يدل على نفى الزائد عنه.
قال ابن كثير: «ولقد أوتى موسى- عليه السلام- آيات أخرى كثيرة، منها ضربه الحجر بالعصا، وخروج الماء منه.. وغير ذلك. مما أوتوه بنو إسرائيل بعد خروجهم من مصر. ولكن ذكر هنا هذه الآيات التسع التي شاهدها فرعون وقومه، وكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرا وجحودا» .
وقوله- تعالى-: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ استئناف مسوق لبيان سبب إرسال موسى إلى فرعون وقومه.
أى: هذه الآيات التسع أرسلناك بها يا موسى إلى فرعون وقومه، لأنهم كانوا قوما فاسقين عن أمرنا، وخارجين على شرعنا، وعابدين لغيرنا من مخلوقاتنا.