الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 32 من سورة فاطر
و «ثم» في قوله- تعالى-: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا للتراخي الرتبى. وأَوْرَثْنَا أى أعطينا ومنحنا، إذ الميراث عطاء يصل للإنسان عن طريق غيره.
والمراد بالكتاب: القرآن الكريم، وما اشتمل عليه من عقائد وأحكام وآداب وتوجيهات سديدة.. وهو المفعول الثاني لأورثنا، وقدم على المفعول الأول، وهو الموصول للتشريف.
واصْطَفَيْنا بمعنى اخترنا واستخلصنا، واشتقاقه من الصفو، بمعنى الخلوص من الكدر والشوائب.
والمراد بقوله: مِنْ عِبادِنا الأمة الإسلامية التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس.
والمعنى: ثم جعلنا هذا القرآن الذي أوحيناه إليك- أيها الرسول الكريم- ميراثا منك لأمتك، التي اصطفيناها على سائر الأمم، وجعلناها أمة وسطا. وقد ورثناها هذا الكتاب لتنتفع بهداياته.. وتسترشد بتوجيهاته، وتعمل بأوامره ونواهيه.
قال الآلوسى: قوله: الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا هم- كما قال ابن عباس وغيره- أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، فإن الله- تعالى- اصطفاهم على سائر الأمم..».
وفي التعبير بالاصطفاء، تنويه بفضل هؤلاء العباد، وإشارة إلى فضلهم على غيرهم، كما أن التعبير بالماضي يدل على تحقق هذا الاصطفاء.
ثم قسم- سبحانه- هؤلاء العباد إلى ثلاثة أقسام فقال: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ. وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ...
وجمهور العلماء على أن هذه الأقسام الثلاثة، تعود إلى أفراد هذه الأمة الإسلامية.
وأن المراد بالظالم لنفسه، من زادت سيئاته على حسناته.
وأن المراد بالمقتصد: من تساوت حسناته مع سيئاته.
وأن المراد بالسابقين بالخيرات: من زادت حسناتهم على سيئاتهم.
وعلى هذا يكون الضمير في قوله- تعالى- بعد ذلك: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها..
يعود إلى تلك الأقسام الثلاثة، لأنهم جميعا من أهل الجنة بفضل الله ورحمته.
ومن العلماء من يرى أن المراد بالظالم لنفسه: الكافر، وعليه يكون الضمير في قوله:
يَدْخُلُونَها يعود إلى المقتصد والسابق بالخيرات، وأن هذه الآية نظير قوله- تعالى- في سورة الواقعة: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ...
ومن المفسرين الذين رجحوا القول الأول ابن كثير فقد قال ما ملخصه: يقول- تعالى- ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم ... وهم هذه الأمة على ثلاثة أقسام: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وهو المفرط في بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات. وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وهو المؤدى للواجبات التارك للمحرمات وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات.
وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ وهو الفاعل للواجبات والمستحبات.
قال ابن عباس: هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ورثهم الله- تعالى- كل كتاب أنزله. فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
وفي رواية عنه: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله- تعالى-، والظالم لنفسه يدخل الجنة بشفاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم.
وفي الحديث الشريف: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتى» ..
وقال آخرون: الظالم لنفسه: هو الكافر.
والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، وهذا اختيار ابن جرير كما هو ظاهر الآية، وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من طرق يشد بعضها بعضا.
ثم أورد الإمام ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث منها: ما أخرجه الإمام أحمد عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في هذه الآية: «هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم في الجنة» .
ومعنى قوله «بمنزلة واحدة» أى: في أنهم من هذه الأمة، وأنهم من أهل الجنة، وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة» .
وقال الإمام ابن جرير: فإن قال لنا قائل: إن قوله يَدْخُلُونَها إنما عنى به المقتصد والسابق بالخيرات؟
قيل له: وما برهانك على أن ذلك كذلك من خبر أو عقل؟ فإن قال: قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار، ولو لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد، وجب أن لا يكون لأهل الإيمان وعيد.
قيل: إنه ليس في الآية خبر أنهم لا يدخلون النار، وإنما فيها إخبار من الله- تعالى- أنهم يدخلون جنات عدن: وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه على ذنوبه التي أصابها في الدنيا ... ثم يدخلون الجنة بعد ذلك، فيكون ممن عمه خبر الله- تعالى- بقوله:
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها .
وقال الشوكانى: والظالم لنفسه: هو الذي عمل الصغائر. وقد روى هذا القول عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وأبى الدرداء، وعائشة. وهذا هو الراجح، لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور ... ووجه كونه ظالما لنفسه، أنها نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات، لكان لنفسه فيها من الثواب حظا عظيما.. .قالوا: وتقديم الظالم لنفسه على المقتصد وعلى السابق بالخيرات. لا يقتضى تشريفا، كما في قوله- تعالى- لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ...
ولعل السر في مجيء هذه الأقسام بهذا الترتيب، أن الظالمين لأنفسهم أكثر الأقسام عددا، ويليهم المقتصدون، ويليهم السابقون بالخيرات، كما قال- تعالى- وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ.
وقوله: بِإِذْنِ اللَّهِ أى: بتوفيقه وإرادته وفضله.
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يعود إلى ما تقدم من توريث الكتاب ومن الاصطفاء.
أى: ذلك الذي أعطيناه- أيها الرسول الكريم- لأمتك من الاصطفاء ومن توريثهم الكتاب، هو الفضل الواسع الكبير، الذي لا يقادر قدره، ولا يعرف كنهه إلا الله- تعالى-.