الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 155 من سورة النساء
ثم عدد - سبحانه - ألونا أخرى من جرائمهم التى عقابهم عليها شديدا فقال - تعالى -: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }.
والفاء فى قوله { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } للتفريع على ما تقدم من قوله { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } والباء للسببية، وما هنا مزيدة لتأكيد نقضهم للميثاق. والجر والمجرور متعلق بمحذف لتذهب نفس السامع فى تقديره كل مذهب فى التهويل والتشنيع على هؤلاء الناقضين لعهودهم مع الله - تعالى - فيكون المعنى:
فبسبب نقض هؤلاء اليهود لعهودهم وبسبب كفرهم بآياتنا، وبسبب قتلهم لأنبيائنا، وبسبب أقوالهم الكاذبة. بسبب كل ذلك فعلنا بهم ما فعلنا من أنواع العقوبات الشديدة، وأنزلنا بهم ما أنزلنا من ظلم ومهانة وصغار ومسخ....الخ.
ويرى بعضهم أن الجار والمجرور متعلق بقوله - تعالى - بعد ذلك { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ }...
أى: فبسبب نقضهم للميثاق. وكفرهم بآيات الله حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم.
قال الفخر الرازى: واعلم أن القول الأول أولى ويدل عليه وجهان:
أحدهما: أن الكلام طويل جداً من قوله: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } إلى قوله: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ }.
الثانى: أن تلك الجنايات المذكورة بعد قوله - تعالى - { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } عظيمة جدا. لأن كفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء، وإنكارهم للتكليف بقولهم: قلوبنا غلف، أعظم الذنوب، وذكر الذنوب العظيمة، إنما يليق أن يفرع عليه العقوبة العظيمة، وتحريم بعض المأكولات عقوبة خفيفة فلا يحسن تعليقه بتلك الجنايات الكبيرة ".
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد لعن بنى إسرائيل كما جاء فى قوله - تعالى -
{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ }
ومسخهم قردة وخنازير كما جاء فى قوله - تعالى
{ فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }
وكما فى قوله - تعالى -
{ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ }
وتلك العقوبات كلها إنما كانت بسبب الجنايات والمنكرات التي سجلتها عليهم الآيات القرآنية؛ والتى من أجمعها هذه الآيات التى معنا.
فالآيات التى معنا تسجل عليهم نقضهم للمواثيق، ثم تسجل عليهم - ثانيا - كفرهم بآيات الله.
وقد عطف - سبحانه - كفرهم بآياته على نقضهم للميثاق الذى أخذه عليهم مع أن ذلك الكفر من ثمرات النقض، للإِشعار بأن النقض فى ذاته إثم عظيم والكفر فى ذاته إثم عظيم - أيضا - من غير التفات إلى أن له سبباً أو ليس له سبب.
وسجل عليهم - ثالثا - قتلهم الأنبياء بغير حق. فقد قتلوا زكريا ويحيى وغيرهما من رسل الله - تعالى -.
ولا شك أن قتل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يدل على شناعة جريمة من قتلهم وعلى توغله فى الجحود والعناد والفجور إلى درجة تعجز العبارات عن وصفها، لأنه بقتله للدعاة إلى الحق، لا يريد للحق أن يظهر ولا للفضيلة أن تنتشر، ولا للخير أن يسود، وإنما يريد أن تكون الأباطيل والرذائل والشرور هى السائدة فى الأرض.
وقوله: { بِغَيْرِ حَقٍّ } ليس قيدا؛ لأن قتل النبيين لا يكون بحق أبداً، وإنما المراد من قوله: { بِغَيْرِ حَقٍّ } بيان أن هؤلاء القاتلين قد بلغوا النهاية فى الظلم والفجور والتعدى.لأنهم قد قتلوا أنبياء الله بدون أى مسوغ يسوغ ذلك، وبدون أية شبهة تحملهم على ارتكاب ما ارتكبوا، وإنما فعلوا ما فعلوا لمجرد إرضاء أحقادهم وشهواتهم وأهوائهم...
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى قوله: فإن قلت: وقتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره؟ قلت. معناه أنهم قتلوهم بغير حق عندهم - ولا عند غيرهم -، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا فى الأرض فيقتلوا. وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم. فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقون به القتل.
ثم سجل عليهم - رابعا - قولهم { قُلُوبُنَا غُلْفٌ }.
وقوله: { غُلْفٌ } جمع أغلف - كحمر جمع أحمر - والشئ الأغلف هو الذى جعل عليه شىء يمنع وصول شئ آخر إليه.
والمعنى: أن هؤلاء الجاحدين قد قالوا عندما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحق إن قلوبنا قد خلقها الله مغطاة بأغطية غليظة، وهذه الأغطية جعلتنا لا نعى شيئا مما تقوله يا محمد، ولا نفقه شيئا مما تدعونا إليه، فهم بهذا الكلام الذى حكاه القرآن عنهم، يريدون أن يتنصلوا من مسئوليتهم عن كفرهم، لأنهم يزعمون أن قلوبهم قد خلقها الله بهذه الطريقة التى حالت بينهم وبين فهم ما يراد منهم.
وقريب من هذا قوله - تعالى - حكاية عن المشركين:
{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ }
وقيل: إن قوله: وغلف: جمع غلاف - ككتب وكتاب - وعليه يكون المعنى: أنهم قالوا إن قلوبنا غلف أى أوعية للعلم شأنها فى ذلك شأن الكتب، فلا حاجة بنا يا محمد إلى ما تدعونا إليه، لأننا عندنا ما يكفينا.
والذى يبدو لنا أن التأويل الأول أولى، لأنه أقرب إلى سياق الآية، فقد رد الله عليهم بقوله: { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }. والطبع معناه. إحكام الغلق على الشئ وختمه بحيث لا ينفذ إليه شئ آخر.
والمعنى: أن هؤلاء القائلين إن قلوبهم غلف كاذبون فيما يقولون، وتخليهم عن مسئولية الكفر ليس صحيحا. لأن كفرهم ليس سببه أن قلوبهم قد خلقت مغطاة بأغطية تحجب عنها إدراك الحق - كما يزعمون - بل الحق أن الله - تعالى - ختم عليها، وطمس معالم الحق فيها، بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة. فهو - سبحانه - قد خلق القلوب على الفطرة، بحيث تتمكن من اختيار الخير والشر، إلا أن هؤلاء اليهود قد أعرضوا عن الخير إلى الشر، واختاروا الكفر على الإِيمان نتيجة انقيادهم لأهوائهم وشهواتهم. فالله - تعالى - طبع على قلوبهم بسبب إيثارهم سبيل الغى على سبيل الرشد، فصاروا لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا قيمة له عند الله - تعالى -.
فقوله { إِلاَّ قَلِيلاً } نعت لمصدر محذوف أى إلا إيماناً قليلا. كإيمانهم بنبوة موسى - عليه السلام - وإنما كان إيمانهم هذا لا قيمة له عند الله، لأن الإِيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم، يعتبره الإِسلام كفرا بالكل كما سبق أن بينا فى قوله - تعالى -
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ حَقّاً }
ومنهم من جعل قوله { إِلاَّ قَلِيلاً } صفة لزمان محذوف أى: فلا يؤمنون إلا زمانا قليلا. ومنهم من جعل الاستثناء فى قوله { إِلاَّ قَلِيلاً } من جماعة اليهود المدلول عليهم بالواو فى قوله { فَلاَ يُؤْمِنُونَ } أى: فلا يؤمنون إلا عددا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأشباهه. والجملة الكريمة وهى قوله: { طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } معترضة بين الجمل المتعاطفة. وقد جئ بها للمسارعة إلى رد مزاعمهم الفاسدة، وأقاربهم الباطلة.