الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 6 من سورة النساء
وقوله- تعالى- وَابْتَلُوا من الابتلاء بمعنى الاختبار والامتحان.
والخطاب للأولياء والأوصياء وكل من له صلة باليتامى.
والمراد ببلوغ النكاح هنا: بلوغ الحلم المذكور في قوله- تعالى-: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا وقوله آنَسْتُمْ أى تبينتم وشاهدتم وأحسستم.
قال القرطبي: آنَسْتُمْ أى أبصرتم ورأيتم ومنه قوله- تعالى-: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً أى أبصر ورأى. وتقول العرب: اذهب فاستأنس هل ترى أحدا. معناه: تبصر. وقيل: آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحد .
والمعنى: عليكم أيها الأولياء والأوصياء أن تختبروا اليتامى، وذلك بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط الأمور، وحسن التصرف في الأموال وبتمرينهم على ما يليق بأحوالهم حتى لا يجيء وقت بلوغهم إلا وقد صار في قدرتهم أن يصرفوا أموالهم تصريفا حسنا. فإن شاهدتم وأحسستم منهم رُشْداً أى صلاحا في عقولهم، وحفظا لأموالهم، فادفعوها إليهم من غير تأخير أو مماطلة.
وحَتَّى هنا للغاية، وهي داخلة على الجملة، فهي تبين نهاية الصغر، والجملة التي دخلت عليها ظرفية في معنى الشرط.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف نظم الكلام؟ قلت: ما بعد حَتَّى إلى قوله:
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ جعل غاية للابتلاء، وهي حَتَّى التي تقع بعدها الجمل. والجملة الواقعة بعدها جملة شرطية، لأن إذا متضمنة معنى الشرط. وفعل الشرط بَلَغُوا النِّكاحَ وقوله فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ جملة من شرط وجزاء واقعة جوابا للشرط الأول الذي هو إذا بلغوا النكاح. فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم، فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم.
فإن قلت: فما معنى تنكير الرشد؟ قلت: معناه نوعا من الرشد وهو الرشد في التصرف والتجارة. أو طرفا من الرشد ومخيلة من مخايله حتى لا ينتظر به تمام الرشد» .
ثم نهى- سبحانه- الأوصياء وغيرهم عن الطمع في شيء من مال اليتامى فقال- تعالى-:
وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا.
أى: ادفعوا أيها الأولياء والأوصياء إلى اليتامى أموالهم من غير تأخير عن حد البلوغ، ولا تأكلوها مسرفين في الأكل ومبادرين بالأخذ خشية أن يكبروا، بأن تفرطوا في إنفاقها وتقولوا: ننفقها كما تريد قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا.
والإسراف في الأصل- كما يقول الآلوسى- تجاوز الحد المباح إلى ما لم يبح. وربما كان ذلك في الإفراط وربما كان في التقصير. غير أنه إذا كان في الإفراط منه يقال: أسرف يسرف إسرافا.
وإذا كان في التقصير يقال: سرف يسرف سرفا».
وقوله بِداراً مفاعلة من البدر وهو العجلة إلى الشيء والمسارعة إليه. وهما- أى قوله إِسْرافاً وَبِداراً منصوبان على الحال من الفاعل في قوله تَأْكُلُوها أى: ولا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم. أو منصوبان على أنهما مفعول لأجله، أى ولا تأكلوها لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم.
والمراد من هذه الجملة الكريمة بيان أشنع الأحوال التي تقع من الأوصياء أو الأولياء وهي أن يأكلوا أموال اليتامى بإسراف وتعجل مخافة أن يبلغ الأيتام رشدهم، فتؤخذ من أولئك الأوصياء تلك الأموال لترد إلى أصحابها وهم اليتامى بعد أن يبلغوا سن الرشد.
ثم بين- سبحانه- ما ينبغي على الوصي إن كان غنيا وما ينبغي له إن كان فقيرا فقال:وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ.
والاستعفاف عن الشيء تركه. يقال: عف الرجل عن الشيء واستعف إذا أمسك عنه.
والعفة: الامتناع عما لا يحل.
أى: ومن كان من الأولياء أو الأوصياء على أموال اليتامى غنيا فليستعفف أى فليتنزه عن أكل مال اليتيم، وليقنع بما أعطاه الله من رزق وفير إشفاقا على مال اليتيم. ومن كان فقيرا من هؤلاء الأوصياء فليأكل بالمعروف، بأن يأخذ من مال اليتيم على قدر حاجته الضرورية وأجر سعيه وخدمته له. فقد روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى فقير ليس لي شيء ولي يتيم. قال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل» . أى غير مسرف في الأخذ، ولا مبادر أى متعجل، ولا جامع منه ما يتجاوز حاجتك.
ثم بين- سبحانه- ما ينبغي على الأوصياء عند انتهاء وصايتهم على اليتامى وعند دفع أموالهم إليهم فقال: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً.
أى: فإذا أردتم أيها الأولياء أن تدفعوا إلى اليتامى أموالهم التي تحت أيديكم بعد البلوغ والرشد، فأشهدوا عليهم عند الدفع بأنهم قبضوها وبرئت عنها ذممكم، لأن هذا الإشهاد أبعد عن التهمة، وأنفى للخصومة، وأدخل في الأمانة وبراءة الساحة.
وقوله- تعالى- وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أى كفى بالله محاسبا لكم على أعمالكم وشاهدا عليكم في أقوالكم وأفعالكم، ومجازيا إياكم بما تستحقون من خير أو شر، لأنه- سبحانه- لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. وإنكم إن أفلتم من حساب الناس في الدنيا فلن تفلتوا من حساب الله الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فعليكم أن تتحروا الحلال في كل تصرفاتكم. ففي هذا التذييل وعيد شديد لكل جاحد لحق غيره، ولكل معتد على أموال الناس وحقوقهم، ولا سيما اليتامى الذين فقدوا الناصر والمعين.
هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة جملة من الأحكام منها:
1- أن على الأوصياء أن يختبروا اليتامى بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها، وأن يمرونهم على ذلك بحسب ما يليق بأحوالهم.
ويرى جمهور العلماء أن هذا الاختبار يكون قبل البلوغ. ويرى بعضهم أن هذا الاختبار يكون بعد البلوغ.
وقد قال القرطبي في بيان كيفية هذا الاختبار ما ملخصه: لا بأس في أن يدفع الولي إلى اليتيم شيئا من ماله يبيح له التصرف فيه، فإن نماه وحسن النظر فيه فقد وقع الاختبار، ووجب على الوصي تسليم جميع ماله إليه- أى بعد بلوغه- وإن أساء النظر وجب عليه إمساك المال عنه..
وقال جماعة من الفقهاء: الصغير لا يخلو من أن يكون غلاما أو جارية، فإن كان غلاما رد النظر إليه في نفقة الدار شهرا، وأعطاه شيئا نزرا ليتصرف فيه ليعرف كيف تدبيره وتصرفه، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه، فإذا رآه متوخيا الإصلاح سلم إليه ماله عند البلوغ وأشهد عليه.
وإن كان جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه فإن رآها رشيدة سلم إليها مالها وأشهد عليها وإلا بقيا تحت الحجر» «1» .
وقد بنى الإمام أبو حنيفة على هذا الاختبار أن تصرفات الصبى العاقل المميز بإذن الولي صحيحة، لأن ذلك الاختبار إنما يحصل إذا أذن له الولي في البيع والشراء- مثلا- وهذا يقتضى صحة تصرفاته.
ويرى الإمام الشافعى أن الاختبار لا يقتضى الإذن في التصرف ولا يتوقف عليه، بل يكون الاختبار بدون التصرف على حسب ما يليق بحال الصبى فابن التاجر- مثلا- يختبر في البيع والشراء إلى حيث يتوقف الأمر على العقد وحينئذ يعقد الولي إن أراد.
2- كذلك أخذ العلماء من هذه الآية أن الأوصياء لا يدفعون أموال اليتامى إليهم إلا بتحقيق أمرين:
أحدهما: بلوغ النكاح.
والثاني: إيناس الرشد.
والمراد ببلوغ النكاح بلوغ وقته وهو التزوج، وهو كناية عن الخروج من حالة الصبا للذكر والأنثى، بأن توجد المظاهر التي تدل على الرجولة في الغلام، والتي تدل على مبلغ بلوغ النساء في الفتاة، وذلك يكون بالاحتلام أو بالحيض بالنسبة للفتاة أو ببلوغ سن معينة قدرها بعضهم بخمس عشرة سنة بالنسبة للذكر والأنثى على السواء.
وقدرها أبو حنيفة بسبع عشرة سنة بالنسبة للفتاة، وبثماني عشرة سنة بالنسبة للفتى.
ومن بلاغة القرآن الكريم أنه عبر عن حالة البلوغ بقوله: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ لأن هذا الوقت يختلف باختلاف البلاد في الحرارة والبرودة، وباختلاف أمزجة أهل البلد الواحد في القوة والضعف، والصحة والمرض.
والمراد بإيناس الرشد: أن يتبين الأولياء من اليتامى الصلاح في العقل والخلق والتصرف في الأموال.
ويرى جمهور العلماء أن اليتيم لا يدفع إليه ماله مهما بلغت سنه ما لم يؤنس منه الرشد لأن الله- تعالى- يقول: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً.
ويقول: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ومعنى ذلك أنه إذا لم يؤنس منهم الرشد لا تدفع إليهم أموالهم، بل يستمرون تحت ولاية الأولياء عليهم لأنهم لا يزالون سفهاء لم يتبين رشدهم.
وقد خالف الإمام أبو حنيفة جمهور الفقهاء فقال. لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا بلغ ولم يؤنس منه الرشد حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغها عاقلا ولو غير رشيد فليس لأحد عليه سبيل، ويجب أن يدفع الوصي إليه ماله ولو كان فاسقا أو مبذرا.
قالوا: وإنما اختار أبو حنيفة هذه السن لأن مدة بلوغ الذكر عنده ثماني عشرة سنة، فإذا زيد عليها سبع سنين- وهي مدة معتبرة في تغير أحوال الإنسان- فعند ذلك يدفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس، لأن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة، والله- تعالى- شرط رشدا منكرا ولم يشترط سائر ضروب الرشد، فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل فقد حصل ما هو الشرط المذكور في هذه الآية .
3- كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أن الوصي على اليتيم إذا كان غنيا فعليه أن يتحرى العفاف. وألا يأخذ شيئا من مال اليتيم، لأن أخذه مع غناه يتنافى مع العفاف الذي يجب أن يتحلى به الأوصياء، ويعتبر من باب الطمع في مال اليتيم.
أما إذا كان الوصي فقيرا فقد أذن الله له أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف أى بالقدر الذي تقتضيه حاجته الضرورية، ولا يستنكره الشرع ولا العقل.
وقد بسط الإمام الرازي القول في هذه المسألة فقال ما ملخصه: اختلف العلماء في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم أولا؟
فمنهم من يرى أن للوصي أن يأخذ من مال اليتيم بقدر أجر عمله لأن قوله- تعالى- وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة. ولأن قوله- تعالى-إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً يدل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم، ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً فائدة. فهذا يدل على أن للوصي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف. ولأن الوصي لما تكفل بإصلاح مهمات الصبى وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعى في أخذ الصدقات وجمعها فإنه يضرب له في تلك الصدقات بسهم فكذا هاهنا.
ومنهم من يرى أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من مال اليتيم قرضا، ثم إذا أيسر قضاه، وإن مات ولم يقدر على القضاء بأن كان معسرا فلا شيء عليه».
ويشهد لهذا الرأى قول عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-: إنى أنزلت نفسي من هذا المال منزلة والى اليتيم. إن استغنيت استعففت. وإن احتجت استقرضت. فإذا أيسرت قضيت».
4- كذلك من الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية أن على الأوصياء عند ما يدفعون أموال اليتامى إليهم أن يشهدوا على دفعها، منعا للخصومات والمنازعات، وإبراء لذمة الأوصياء، ولكي يكون اليتامى على بينة من أمرهم.
وقد اختلف العلماء في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع إليه ماله هل يصدق؟ وكذلك إذا قال: أنفقت عليه في صغره هل يصدق؟
أما الشافعية والمالكية والحنابلة فيرون أنه لا يصدق لأن الآية الكريمة تقول: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وقوله فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أمر. وظاهر الأمر أنه للوجوب.
وليس معنى الوجوب هنا أنه يأثم إذا لم يشهد. بل معناه أن الاشهاد لا بد منه في براءة ذمته بأن يدفع له ماله أمام رجلين أو رجل وامرأتين حتى إذا دفع المال ولم يشهد ثم طالبه اليتيم فحينئذ يكون القول ما قاله اليتيم بعد أن يقسم على أن الوصي لم يدفع إليه ماله.
ويرى الإمام أبو حنيفة أن الأمر في قوله- قوله- فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ للندب. وأن الوصي إذا ادعى ذلك يصدق ويكتفى في تصديقه بيمينه لأنه أمين لم تعرف خيانته، إذ لو عرفت خيانته لعزل. والأمين يصدق باليمين إذا كان هناك خلاف بينه وبين من ائتمنه. ولأن قوله- تعالى- بعد ذلك وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً يؤيد أن البينة ليست لازمة إذ معناه أنه لا شاهد أفضل من الله- تعالى- فيما بينكم وبينهم.
ثم شرع- سبحانه- في بيان أحكام المواريث بعد أن بين الأحكام التي تتعلق بأموال اليتامى فساق- سبحانه- قاعدة عامة لأصل التوريث في الإسلام هي أن الرجال لا يختصون بالميراث، بل للنساء معهم حظ مقسوم، ونصيب مفروض، سواء أكان الشيء الموروث قليلا أم كثيرا فقال تعالى: