الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 60 من سورة النساء
روى المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ.. إلخ روايات متقاربة في معناها ومن ذلك ما أخرجه الثعلبي وابن أبى حاتم من طرق عن ابن عباس أن رجلا من المنافقين يقال له بشر خاصم يهوديا، فدعاه اليهودي إلى التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافق إلى التحاكم إلى كعب بن الأشرف: ثم إنهما احتكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي، فلم يرض المنافق. وقال: تعالى نتحاكم إلى عمر بن الخطاب.
فقال اليهودي لعمر: قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه. فقال عمر للمنافق:
أكذلك؟ قال: نعم. فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما. فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد- أى مات-. ثم قال: هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله- تعالى- وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم فنزلت» .
والاستفهام في قوله أَلَمْ تَرَ للتعجيب من حال أولئك المنافقين، وإنكار ما هم عليه من خلق ذميم وإعراض عن حكم الله ورسوله إلى حكم غيرهما.
وقوله يَزْعُمُونَ من الزعم ويستعمل غالبا في القول الذي لا تحقق معه، كما يستعمل- أيضا- في الكذب ومنه قوله- تعالى-: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أى بكذبهم.
وقد يطلق الزعم على القول الحق.
قال الآلوسى: وقد أكثر سيبويه في «الكتاب» من قوله: زعم الخليل كذا- في أشياء يرتضيها.
والمراد بالزعم هنا الكذب لأن الآية الكريمة في المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون.
والمعنى: ألم ينته علمك يا محمد إلى حال هؤلاء المنافقين الذين يزعمون كذبا وزورا أنهم آمنوا بما أنزل إليك من ربك من قرآن كريم، ومن شريعة عادلة، ويزعمون كذلك أنهم آمنوا بما أنزل على الرسل من قبلك من كتب سماوية؟ إن كنت لم تعلم حالهم أو لم تنظر إليهم فهاك خبرهم لتحذرهم ولتحذر أمتك من شرورهم.
فالمقصود من الاستفهام التعجيب من حال هؤلاء المنافقين، وحض النبي صلى الله عليه وسلم وأمته على معرفة مسالكهم الخبيثة، حتى يأخذوا حذرهم منهم.
وفي وصفهم بادعاء الإيمان بما أنزل على الرسول وبما أنزل على الرسل من قبله تأكيد للتعجيب من أحوالهم، وتشديد للتوبيخ والتقبيح من سلوكهم ببيان كمال المباينة بين دعواهم المقتضية حتما للتحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبين ما صدر عنهم من هرولة إلى التحاكم إلى غيره.
وقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ بيان لموطن التعجيب من أحوالهم الغريبة، وصفاتهم السيئة.
والمراد بالطاغوت هنا: ما سوى شريعة الإسلام من أحكام باطلة بعيدة عن الحق يأخذها المنافقون عمن يعظمونهم وقيل المراد به: كعب بن الأشرف لأنه هو الذي أراد المنافقون التحاكم إليه، وقد سماه الله بذلك لكثرة طغيانه وعداوته للرسول صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: أن هؤلاء المنافقين يزعمون الإيمان بما أنزل إليك- يا محمد- وبما أنزل من قبلك، ومع هذا فهم يريدون- عن محبة واقتناع- التحاكم إلى الطاغوت أى إلى من يعظمونه، ويصدرون عن قوله، ويرضون بحكمه من دون حكم الله.
وقوله وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ جملة حالية من ضمير يريدون.
أى: يريدون التحاكم إلى الطاغوت والحال أن الله- تعالى- قد أمرهم بالكفر به، وبالانقياد للأحكام التي يحكم بها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً معطوف على قوله يُرِيدُونَ وداخل في حكم التعجيب، لأن اتباعهم لمن يريد إضلالهم، وإعراضهم عمن يريد هدايتهم أمر يدعو إلى العجب الشديد.
والمراد بالضلال البعيد: الكفر والبعد عن الحق والهدى.
ووصفه بالبعد للمبالغة في شناعة ضلالهم، بتنزيله على سبيل المجاز منزلة جنس ذي مسافة كان هذا الفرد منه بالغا غاية المسافة.
قال ابن كثير: هذه الآية إنكار من الله- تعالى- على من يدعى الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء السابقين. وهو مع ذلك، يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله، وسنة رسوله.
كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما. فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد. وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل: في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل غير ذلك. والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لكل من عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل. وهو المراد بالطاغوت هنا .