الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 79 من سورة النساء
وقوله- تعالى- ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد كل مكلف من أمته.
والمراد بالحسنة ما يسر له الإنسان ويفرح به، والمراد بالسيئة ما يسوءه ويحزنه.
والمعنى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أى من نعمة وأمور حسنة تفرح بها فَمِنَ اللَّهِ أى فبتوفيقه لك وتفضله عليك، وإرشادك إلى الوسائل التي أوصلتك إلى ما يسرك. وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أى من مصيبة أو غيرها مما يحزن فَمِنْ نَفْسِكَ أى: فمن نفسك بسبب وقوعها فيما نهى الله عنه، وتركها للأسباب الموصلة إلى النجاح، كما قال- تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.
وروى الترمذي عن أبى موسى الأشعرى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصيب عبدا نكتة فما فوقها أو دونها إلا بذنب. وما يعفو الله عنه أكثر» . قال وقرأ: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.
وروى ابن عساكر عن البراء- رضى الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم. وما يعفو الله أكثر» .
وعلى هذا يكون قوله- تعالى- ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ.. إلخ من كلام الله- تعالى- والخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به كل مكلف- كما سبق أن أشرنا- وقد ساقه- سبحانه- على سبيل الاستئناف ردا على مزاعم المنافقين ومن هم على شاكلتهم في الكفر وضعف الإيمان.
وقيل إن هذه الآية حكاية من الله- تعالى- لأقوال المنافقين السابقة، فكأنهم لم يكتفوا بأن ينسبوا للرسول صلى الله عليه وسلم أنه السبب فيما أصابهم من جدب وهزيمة. بل أضافوا إلى ذلك قولهم له:
إن ما أصابك من حسنة فمن الله ولا فضل لك فيما نلت من نصر أو غنيمة، وما أصابك من سيئة أى هزيمة أو مصيبة فمن سوء صنعك وتصرفك.
ومقصدهم من ذلك- قبحهم الله- تجريد النبي صلى الله عليه وسلم من كل فضل، وإلقاء اللوم عليه في كل ما يصيبهم من مصائب.
وقد أشار القرطبي إلى هذين القولين بقوله: قوله- تعالى- ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. أى ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم أى من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم.
وقيل: في الكلام حذف تقديره: يقولون. وعليه يكون الكلام متصلا، والمعنى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً حتى يقولوا ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ .
وقال الجمل: فإن قلت: كيف وجه الجمع بين قوله- تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وبين قوله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فأضاف السيئة إلى فعل العبد في هذه الآية- بينما أضاف الكل إلى الله في الآية السابقة-؟
قلت: أما إضافة الأشياء كلها إلى الله في الآية السابقة في قوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فعلى الحقيقة، لأن الله هو خالقها وموجدها. وأما إضافة السيئة إلى فعل العبد في قوله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فعلى سبيل المجاز. والتقدير: وما أصابك من سيئة فمن أجلها وبسبب
اقترافها الذنوب. وهذا لا ينافي أن خلقها من الله- كما سبق) .
وقال بعض العلماء: والتوفيق بين قوله- تعالى- ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ وبين قوله قبل ذلك: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو أن قوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كان موضوعه الكلام في تقدير الله. فهم إن انتصر المؤمنون لا ينسبون للنبي صلى الله عليه وسلم أى فضل، بل يجردونه من الفضل ويقولون هو من عند الله. وما قصدوا التفويض والإيمان بالقدر، بل قصدوا الغض من مقام النبوة. فإن كان هناك خير نسبوه إلى الله وإن كان ما يسوء نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إيذاء وتمردا.
فالله تعالى- قال لهم: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أى كل ذلك بتقدير الله وإرادته.
أما قوله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فموضوعه اتخاذ الأسباب. ومعناه: أن من أخذ بالأسباب وتوكل على الله فالله- تعالى- يعطيه النتائج ومن لا يتخذ الأسباب، أو يخالف المنهاج السليم الموصل إلى الثمرة، فإنه سيناله ما يسوؤه، وبسبب منه.
فالأول: لبيان القدر.
والثاني: لبيان العمل .
هذا، وقوله- تعالى- وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بيان لجلال منصبه وعلو مكانته صلى الله عليه وسلم عند ربه- عز وجل- بعد بيان بطلان زعمهم الباطل في حقه عليه الصلاة والسلام.
أى: وأرسلناك- يا محمد- بأمرنا وبشريعتنا لتبلغ الناس ما أمرناك بتبليغه، ولتخرجهم من ظلمات الجهالة والكفر إلى نور التوحيد والإيمان وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على صحة رسالتك، وعلى صدقك فيما تبلغه عنه، وإذا ثبت ذلك فالخير في طاعتك والشر والشؤم في مخالفتك.
والمراد بالناس جميعهم. أى: وأرسلناك لجميع الناس كما قال- تعالى- وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.
وقوله رَسُولًا حال مؤكدة لعاملها وهو أرسلناك.
وقوله وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً تثبيت وتقوية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم أى: امض في طريقك ولا تلتفت إلى أقوالهم، وكفى بالله عليك وعليهم شهيدا، فإنه- سبحانه- لا يخفى عليه أمرك وأمرهم.