الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 12 من سورة الحجرات
وقوله- تعالى- اجْتَنِبُوا من الاجتناب يقال: اجتنب فلان فلانا إذا ابتعد عنه، حتى لكأنه في جانب والآخر في جانب مقابل.
والمراد بالظن المنهي عنه هنا: الظن السيئ بأهل الخير والصلاح بدون دليل أو برهان.
قال بعض العلماء ما ملخصه: والظن أنواع: منه ما هو واجب، ومنه ما هو محرم، ومنه ما هو مباح.
فالمحرم: كسوء الظن بالمسلم المستور الحال، الظاهر العدالة، ففي الحديث الشريف:
«إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث..» وفي حديث آخر: «إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء» .
وقلنا: كسوء الظن بالمسلم المستور الحال ... لأن من يجاهر بارتكاب الخبائث.. لا يحرم سوء الظن به، لأن من عرض نفسه للتهم كان أهلا لسوء الظن به.
والظن الواجب يكون فيما تعبدنا الله- تعالى- بعلمه، ولم ينصب عليه دليلا قاطعا، فهنا يجب الظن للوصول إلى المعرفة الصحيحة، كقبول شهادة العدل، وتحرى القبلة..
والظن المباح مثلوا له بالشك في الصلاة حين استواء الطرفين ...
وحرمة سوء الظن بالناس، إنما تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتعدى إلى الغير، وأما أن تظن شرا لتتقيه، ولا يتعدى أثر ذلك إلى الغير فذلك محمود غير مذموم، وهو محمل ما ورد من أن «من الحزم سوء الظن..» .
أى: يا من آمنتم بالله- تعالى- إيمانا حقا، ابتعدوا ابتعادا تاما عن الظنون السيئة بأهل الخير من المؤمنين، لأن هذه الظنون السيئة التي لا تستند إلى دليل أو أمارة صحيحة إنما هي مجرد تهم، تؤدى إلى تولد الشكوك والمفاسد.. فيما بينكم..
وجاء- سبحانه- بلفظ «كثيرا» منكرا لكي يحتاط المسلم في ظنونه، فيبتعد عما هو محرم منها، ولا يقدم إلا على ما هو واجب أو مباح منها- كما سبق أن أشرنا-.
وقوله- سبحانه-: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ تعليل للأمر باجتناب الظن. والإثم:
الذنب الذي يستحق فاعله العقوبة عليه. يقال: أثم فلان- كعلم- يأثم إثما فهو آثم إذا ارتكب ذنبا. والمراد بهذا البعض المذموم من الظن ما عبر عنه- سبحانه- قبل ذلك بقوله:
اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ.
أى: إن الكثير من الظنون يؤدى بكم إلى الوقوع في الذنوب والآثام فابتعدوا عنه.
قال ابن كثير: ينهى الله عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله، لأن بعض ذلك يكون إثما محضا، فليجتنب كثيرا منه احتياطا.. عن حارثة بن النعمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ثلاث لازمات لأمتى:
«الطيرة والحسد وسوء الظن» : فقال رجل: ما الذي يذهبن يا رسول الله من هن فيه؟
قال: «إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض» .
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن المسيب قال: كتب إلى بعض إخوانى من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ضع أمر أخيك على أحسنه، ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه ... .
وقوله- سبحانه-: وَلا تَجَسَّسُوا أى: خذوا ما ظهر من أحوال الناس ولا تبحثوا عن بواطنهم أو أسرارهم. أو عوراتهم ومعايبهم، فإن من تتبع عورات الناس فضحه الله- تعالى-.
فالتجسس مأخوذ من الجس، وهو البحث عما خفى من أمور الناس، وقرأ الحس وأبو رجاء: ولا تحسسوا من الحس، وهما بمعنى واحد. وقيل هما متغايران التجسس- بالجيم- معرفة الظاهر، وأن التحسس- بالحاء- تتبع البواطن وقيل بالعكس..
وعلى أية حال فالمراد هنا من التجسس والتحسس: النهى عن تتبع عورات المسلمين، أخرج أبو داود وغيره عن أبى برزة الأسلمى قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه. لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورات المسلمين، فضحه الله- تعالى- في قعر بيته» .
وعن معاوية بن أبى سفيان قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» .
ثم نهى- سبحانه- بعد ذلك عن الغيبة فقال: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً والغيبة- بكسر الغين- أن تذكر غيرك في غيابه بما يسوءه يقال: اغتاب فلان فلانا، إذا ذكره بسوء في غيبته، سواء أكان هذا الذكر بصريح اللفظ أم بالكناية، أم بالإشارة، أم بغير ذلك.
روى أبو داود وغيره عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتدرون ما الغيبة؟
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أرأيت إن كان في أخى ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه .
ثم ساق- سبحانه- تشبيها ينفر من الغيبة أكمل تنفير فقال: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ. والاستفهام للتقرير لأنه من الأمور المسلمة أن كل إنسان يكره أكل لحم أخيه حيا، فضلا عن أكله ميتا.
والضمير في قوله: فَكَرِهْتُمُوهُ يعود على الأكل المفهوم من قوله يَأْكُلَ ومَيْتاً حال من اللحم أو من الأخ.
أى: اجتنبوا أن تذكروا غيركم بسوء في غيبته، فإن مثل من يغتاب أخاه المسلم كمثل من يأكل لحمه وهو ميت، ولا شك أن كل عاقل يكره ذلك وينفر منه أشد النفور.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة: قوله- تعالى-: أَيُحِبُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ.. تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض غيره على أفظع وجه وأفحشه.
وفيه مبالغات شتى: منها الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها: جعل ما هو الغاية في الكراهة موصولا بالمحبة، ومنها: إسناد الفعل إلى أحدكم، والإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك، ومنها: أنه- سبحانه- لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، وإنما جعله أخا، ومنها: أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ وإنما جعله ميتا..
وانتصب «ميتا» على الحال من اللحم أو من الأخ ... وقوله: فَكَرِهْتُمُوهُ فيه معنى الشرط. أى: إن صح هذا فقد كرهتموه- فلا تفعلوه- وهي الفاء الفصيحة .
والحق أن المتأمل في هذه الآية الكريمة يراها قد نفرت من الغيبة بأبلغ أسلوب وأحكمه، لأنها من الكبائر والقبائح التي تؤدى إلى تمزق شمل المسلمين، وإيقاد نار الكراهية في الصدور.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقد أخرج العلماء أشياء لا يكون لها حكم الغيبة، وتنحصر في ستة أسباب:
الأول: التظلم، إذ من حق المظلوم أن يشكو ظالمه إلى من تتوسم فيه إزالة هذا الظلم.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته.
الثالث: الاستفتاء، إذ يجوز للمستفتى أن يقول للمفتي: ظلمني فلان بكذا..
الرابع: تحذير المسلمين من الشر، كتجريح الشهود والرواة والمتصدين للإفتاء بغير علم.
الخامس: المجاهرون بالمعاصي وبارتكاب المنكرات، فإنه يجوز ذكرهم بما تجاهروا به..
السادس: التعريف باللقب الذي لا يقصد به الإساءة كالأعمش والأعرج .
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بدعوة المؤمنين إلى التوبة والإنابة فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ. أى: واتقوا الله- أيها المؤمنون- بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما أمركم- سبحانه- باجتنابه، إن الله- تعالى- كثير القبول لتوبة عباده، الذين يتوبون من قريب، ويرجعون إلى طاعته رجوعا مصحوبا بالندم على ما فرط منهم من ذنوب، ومقرونا بالعزم على عدم العودة إلى تلك الذنوب لا في الحال ولا في الاستقبال، ومستوفيا لكل ما تستلزمه التوبة الصادقة من شروط.
وهو- أيضا- واسع الرحمة لعباده المؤمنين، المستقيمين على أمره.
وبذلك نرى هذه الآية الكريمة قد نهت المسلمين عن رذائل، يؤدى تركها إلى سعادتهم ونجاحهم، وفتحت لهم باب التوبة لكي يقلع عنها من وقع فيها..
وبعد هذه النداءات الخمسة للمؤمنين، التي اشتملت على الآداب النفسية والاجتماعية..
وجه- سبحانه- نداء إلى الناس جميعا، ذكرهم فيه بأصلهم وبميزان قبولهم عنده، فقال- سبحانه-: