الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 2 من سورة الحجرات
ثم وجه- سبحانه- نداء ثانيا إلى المؤمنين، أكد فيه وجوب احترامهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ.
قال الآلوسى: هذه الآية شروع في النهى عن التجاوز في كيفية القول عند النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد النهى عن التجاوز في نفس القول والفعل. وإعادة النداء مع قرب العهد به، للمبالغة في الإيقاظ والتنبيه، والإشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه .
أى: يا من آمنتم بالله واليوم الآخر.. واظبوا على توقيركم واحترامكم لرسولكم صلّى الله عليه وسلّم ولا ترفعوا أصواتكم فوق صوته عند مخاطبتكم له. ولا تجعلوا أصواتكم مساوية لصوته صلّى الله عليه وسلّم حين الكلام معه، ولا تنادوه باسمه مجردا بأن تقولوا له يا محمد، ولكن قولوا له: يا رسول الله، أو يا نبي الله.
والكاف في قوله: كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف أى: ولا تجهروا له بالقول جهرا مثل جهر بعضكم لبعض.
قال القرطبي: وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا، حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفته، أعنى الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة، وجلالة مقدارها، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها .
وقوله- سبحانه-: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ بيان لما يترتب على رفع الصوت عند مخاطبته صلّى الله عليه وسلّم من خسران.
والجملة تعليل لما قبلها، وهي في محل نصب على أنها مفعول لأجله. أى: نهاكم الله- تعالى- عن رفع أصواتكم فوق صوت النبي، وعن أن تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، كراهة أو خشية أن يبطل ثواب أعمالكم بسبب ذلك، وأنتم لا تشعرون بهذا البطلان.
قال ابن كثير: وقوله: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أى: إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده صلّى الله عليه وسلّم خشية أن يغضب من ذلك، فيغضب الله لغضبه، فيحبط الله عمل من أغضبه وهو لا يدرى. وقال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره، كما كان يكره في حياته، لأنه محترم حيا وفي قبره .
ولقد امتثل الصحابة لهذه الإرشادات امتثالا تاما، فهذا أبو بكر يروى عنه أنه لما نزلت هذه الآية قال: يا رسول الله، والله لا أكلمك إلا كأخى السرار- أى: كالذي يتكلم همسا. وهذا ثابت بن قيس، كان رفيع الصوت، فلما نزلت هذه الآية قال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا من أهل النار، حبط عملي، وجلس في أهل بيته حزبنا ... فلما بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم ما قاله ثابت، قال لأصحابه: «لا. بل هو من أهل الجنة» .
قال بعض العلماء: وما تضمنته هذه الآية من لزوم توقير النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء مبينا في آيات أخرى، منها قوله تعالى-: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً.
وقد دلت آيات من كتاب الله على أن الله- تعالى- لم يخاطبه في كتابه باسمه، وإنما يخاطبه بما يدل على التعظيم كقوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ. يا أَيُّهَا الرَّسُولُ. يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.
مع أنه- سبحانه- قد نادى غيره من الأنبياء بأسمائهم، كقوله- تعالى-: وَقُلْنا يا آدَمُ. وقوله- عز وجل-: وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا.
أما النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يذكر اسمه في القرآن في خطاب، وإنما ذكر في غير ذلك، كقوله- تعالى- وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ .