الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 109 من سورة المائدة
قال الفخر الرازي: اعلم أن عادة الله تعالى- جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام، أتبعها إما بالإلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء أو بشرح أحوال القيامة، ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر- فيما تقدم أنواعا كثيرة من الشرائع، أتبعها بوصف أحوال القيامة.
ثم قال وفي هذه الآية قولان:
أحدهما: أنها متصلة بما قبلها والتقدير: واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل- فيكون قوله:
يَوْمَ يَجْمَعُ بدل اشتمال من قوله في الآية السابقة وَاتَّقُوا اللَّهَ والقول الثاني: أنها منقطعة عما قبلها والتقدير:اذكروا يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ .
والمعنى: لقد سقنا لكم- أيها الناس- ما سقنا من الترغيب والترهيب وبينا لكم ما بينا من الأحكام والآداب، فمن الواجب عليكم أن تتقوا الله وأن تحذروا عقابه، وأن تذكروا ذلك اليوم الهائل الشديد يوم يجمع الله الرسل الذين أرسلهم إلى مختلف الأقوام. في شتى الأمكنة والأزمان فيقول لهم: ماذا أجبتم من أقوامكم؟
أى: ما الإجابة التي أجابكم بها أقوامكم؟
وخص- سبحانه- الرسل بالذكر- مع أن الرسل وغيرهم سيجمعون للحساب يوم القيامة- لإظهار شرفهم وللإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم من الأقوام لأن هؤلاء الأقوام إنما هم تبع لهم.
وقال- سبحانه-ماذا أُجِبْتُمْ ولم يقل- مثلا- «هل بلغتم رسالتي أولا» ؟ للإشعار بأن الرسل الكرام قد بلغوا رسالة الله على أكمل وجه وأن الذين خالفوهم من أقوامهم سيتحملون وزر مخالفتهم يوم القيامة.
وقوله: قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ حكاية لإجابة الرسل فإن قيل: لماذا نفوا عن أنفسهم العلم مع أن عندهم بعض العلم؟ فالجواب على ذلك أن هذا من باب التأدب مع الله- تعالى- فكأنهم يقولون: لا علم لنا يذكر بجانب علمك المحيط بكل شيء، ونحن وإن كنا قد عرفنا ما أجابنا به أقوامنا، إلا أن معرفتنا هذه لا تتعدى الظواهر، أما علمك أنت- يا ربنا- فشامل للظواهر والبواطن، أو أنهم قالوا ذلك إظهارا للتشكى والالتجاء إلى الله ليحكم بينهم وبين أقوامهم الذين كذبوهم. أو أن مرادهم لا علم لنا بما كان منهم بعد أن فارقناهم وفارقنا من جاء بعدنا من الناس، لأن علمنا مقصور على حال من شاهدناهم وعاصرناهم.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد حكى هذه الأقوال وغيرها بأسلوبه البليغ فقال:
فإن قلت: ما معنى سؤالهم؟ قلت: توبيخ قومهم. كما كان سؤال الموءودة توبيخا للوائد.
فإن قلت: كيف يقولون: «لا علم لنا وقد علموا بما أجيبوا؟» .
قلت: يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم- أى: بما ابتلوا به منهم-، وكابدوا من سوء إجابتهم، إظهارا للتشكى واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم، وذلك أعظم على الكفرة، وأنت في أعضادهم، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم، إذا اجتمع توبيخ الله لهم وتشكى أنبيائه منهم. ومثاله: أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكبة، قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه. فجمع بينهما ويقول له: ما فعل بك هذا الخارجي؟ - وهو عالم بما فعل به- يريد توبيخه وتبكيته، فيقول له: أنت أعلم بما فعل بي، تفويضا للأمر إلى علم سلطانه واتكالا عليه، وإظهارا للشكاية وتعظيما لما حل به منه. - ولله المثل الأعلى- وقيل: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أنفسهم.
وقيل معناه: علمنا ساقط مع علمك ومغمور، لأنك علام الغيوب، ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي فيها إجابة الأمم لرسلهم.
وقيل معناه: لا علم لنا بما كان منهم بعدنا، وإنما الحكم للخاتمة، وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه موبخين» .