الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 31 من سورة المائدة
ثم حكى القرآن بعض ما حدث بعد قتل الأخ أخاه فقال: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ.
وقوله: فَبَعَثَ من البعث بمعنى الإرسال. وهو هنا مستعمل في الإلهام بالطير إلى ذلك المكان بحيث يراه قابيل.
والغراب: طائر معروف. قالوا: والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الطيور أو الحيوان، لأنه يتشاءم به في الفراق والاغتراب. أو لأن من عادة الغراب دفن الأشياء.
وقوله: يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ أى: ينبش التراب بمنقاره ورجليه بحيث يستخرجه من الأرض، ليعمل ما يشبه الحفرة.
والتعبير بالمضارع، للإشارة إلى أن البحث قد مكث وقتا، وكان مجال استمرار.
وقوله: لِيُرِيَهُ إما متعلق بقوله فَبَعَثَ فيكون الضمير في الفعل لله- تعالى- أو متعلق بقوله: يَبْحَثُ فيكون الضمير للغراب.
قال القرطبي: قال مجاهد: بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر ثم حفر فدفنه- فتعلم قابيل ذلك من الغراب- وكان ابن آدم هذا أول من قتل. وقيل إن الغراب بحث الأرض على طعمه- أى: أكله- ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه، لأن عادة الغراب فعل ذلك، فتنبه قابيل بذلك على مواراة أخيه» .
«والسوءة» ما تسوء رؤيته من الجسد، والمراد بها هنا: جميع جسد الميت وقيل: المراد بها العورة، لأنها تسوء ناظرها. وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها، لأن سترها آكد.
وهذه الآية الكريمة مرتبطة بكلام يسبقها لم يذكره القرآن الكريم لفهمه من السياق.
والتقدير: أن القاتل بعد أن ارتكب جريمته. ورأى جثة أخيه أمامه ملقاة في العراء. تحير ماذا يفعل فيها حتى لا يتركها عرضة لنهش السباع والطيور. فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ أى:
يحفر وينبش بمنقاره ورجليه متعمقا فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ أى: ليعلم ذلك القاتل ويعرفه كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ أى: كيف يستر في التراب جسم أخيه بعد أن فارقته الحياة، وأصبح عرضة للتغير والتعفن.
وقوله- تعالى- قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي بيان لما اعترى هذا القاتل من تحسر وندم.
وكلمة يا وَيْلَتى أصلها: يا ويلتى. وهي كلمة جزع وتحسر. تستعمل عند وقوع المصيبة العظيمة كأن المتحسر ينادى ويلته ويطلب حضورها، بعد تنزيلها منزلة من ينادى. ولا يكون ذلك إلا في أشد الأحوال ألما، والويلة كالويل: ومعناهما الفضيحة والبلية والهلاك.
أى: قال القاتل لأخيه ظلما وحسدا بجزع وحسرة- بعد أن أرى غرابا يحفر حفرة ليدفن فيها شيئا- قال يا وَيْلَتى أى: يا فضحيتى وبليتى أقبلى فهذا وقتك، لأنى قد نزلت بي أسبابك.
وقوله: أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي أى: أضعفت عن الحيلة التي تجعلني مثل هذا الغراب فأستر جسد أخى في التراب كما دفن الغراب بمنقاره ورجليه في الأرض ما أراد دفنه؟! والاستفهام في أَعَجَزْتُ للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب، مع أنه إنسان فيه عقل، والغراب طائر من أخس الطيور.
وقوله: فَأُوارِيَ معطوف على قوله: أَنْ أَكُونَ.
وقوله: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ، تذييل قصد به بيان ما أصاب قابيل بعد أن قتل أخاه عدوانا وحسدا، ولم يعرف كيف يستر جثته إلا من الغراب.
والندم: أسف الفاعل على فعل صدر منه.
قال الراغب: الندم والندامة التحسر من تغير رأى في أمر فائت. قال- تعالى-: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. وأصله من منادمة الحزن له وملازمته إياه» .
والمعنى: فأصبح قابيل الذي قتل أخاه هابيل بغيا وحسدا من النادمين على ما اقترف من فواحش تدل على جهله، وبغيه، وتمكن الحقد من نفسه.
قال صاحب المنار: والندم الذي ندمه- قابيل- هو ما يعرض لكل إنسان عقب ما يصدر عنه من الخطأ في فعل إذا ظهر له أن فعله كان شرا له لا خيرا. وقد يكون الندم توبة إذا كان سببه الخوف من الله، والتألم من تعدى حدوده، وهذا هو المراد بحديث «الندم توبة» - رواه أحمد والبخاري في تاريخه والحاكم والبيهقي.
وأما الندم الطبيعي الذي أشرنا إليه فلا يعد وحده توبة. وفي حديث ابن مسعود في الصحيحين مرفوعا: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل- أى نصيب- من دمها لأنه أول من سن القتل» .