الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 33 من سورة المائدة
قال ابن جرير: اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية؟ فقال بعضهم: نزلت في قوم من أهل الكتاب كانوا أهل موادعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فعرف الله نبيه الحكم فيهم ...
وقال آخرون: نزلت في قوم من المشركين.
وقال آخرون: بل نزلت في قوم من عرينة وعكل- بضم العين وسكون الكاف- ارتدوا عن الإسلام، وحاربوا الله ورسوله، فعن أنس أن رهطا من عكل وعرينة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف، وإنا استوخمنا المدينة- أى: وجدناها رديئة المناخ- فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود وراع- أى: بعدد من الإبل ومعهم راع-، وأمرهم أن يخرجوا بها، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا الراعي، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم، فأتى بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا، فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم.
ثم قال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل الله هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم: لمعرفة حكمه على من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادا، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين» .
والذي يراه ابن جرير أولى هو الذي تطمئن إليه النفس، فإن الآية الكريمة تبين عقاب قطاع الطرق الذين يحاربون النظام القائم للأمة، ويرتكبون جرائم القتل والنهب والسلب والسرقة سواء أكانوا من المشركين أم من غيرهم؟ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقوله: سبحانه يُحارِبُونَ من المحاربة. والمحاربة: مفاعلة من الحرب وهي ضد السلم، والأصل في معنى كلمة الحرب: الأخذ والسلب. يقال: حربه، إذا سلبه ماله، والمراد بالمحاربة هنا: قطع الطريق على الآمنين بالاعتداء عليهم بالقتل أو السلب أو ما يشبه ذلك من الجرائم التي حرمها الله- تعالى-:
ومحاربة الناس لله- تعالى- على وجه الحقيقة غير ممكنة، لتنزهه- سبحانه- عن أن يكون من الجواهر والأجسام التي تقاتل ولأن، المحاربة تستلزم أن يكون كل من المتحاربين في وجهة ومكان والله منزه عن ذلك، فيكون التعبير مجازا عن المخالفة لشرع الله، وارتكاب ما يغضبه أو المعنى: يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله وهم المسلمون فيكون الكلام على تقدير حذف مضاف.
وصدر- سبحانه- الآية بلفظ إنما المفيد للقصر، لتأكيد العقاب، ولبيان أنه عقاب لا هوادة فيه، لأنه حد من حدود الله- تعالى- على تلك الجريمة النكراء التي تقوض بنيان الجماعة، وتهدم أمنها، وتزلزل كيانها، وتبعث الرعب والخوف في نفوس أفرادها.
وعبر- سبحانه- عمن يحارب أولياءه وشرعه بأنهم محاربون له ولرسوله لزيادة التشنيع عليهم، ولبيان أن كل من يهدد أمن المسلمين ويعتدى عليهم يكون محاربا لله ولرسوله ومستحقا لغضبه- سبحانه- وعقوبته.
وقوله: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً معطوف على قوله يُحارِبُونَ.
وقوله: وَيَسْعَوْنَ من السعى وهو الحركة السريعة المستمرة.
والفساد: ضد الصلاح. فكل ما خرج عن وضعه الذي يكون به صالحا نافعا، يقال إنه قد فسد. والسعى في الأرض بالفساد المراد به هنا: قطع الطريق على الناس، وتهديد أمنهم، والتعرض لهم بالأذى في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم.
وقوله: فَساداً مفعول لأجله أى: يحاربون ويسعون لأجل الفساد. أو هو حال من فاعل يَسْعَوْنَ بتأويله بمفسدين، أو ذوى فساد.
وقوله: أن يقتّلوا أو يصلّبوا إلخ. خبر عن المبتدأ الذي هو جَزاءُ والمعنى: إِنَّما جَزاءُ أى: عقاب الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أى: يخالفونهما ويعصون أمرهما، ويعتدون على أوليائهما وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أى: يعملون بسرعة ونشاط في الأرض لا من أجل الإصلاح وإنما من أجل الإفساد فيها عن طريق تهديد أمن الناس، والاعتداء على أموالهم وأنفسهم. جزاء هؤلاء أَنْ يُقَتَّلُوا والتقتيل هو القتل، إلا أنه ذكر بصيغة التضعيف لإفادة الشدة في القتل وعدم التهاون في إيقاعه عليهم لكونه حق الشرع وللإشارة إلى الاستمرار في قتلهم ماداموا مستمرين في الجريمة فكلما كان منهم قتل قتلوا.
أَوْ يُصَلَّبُوا والتصليب: وضع الجاني الذي يراد قتله مشدودا على مكان مرتفع بحيث يرى بعد القتل ليكون عبرة لغيره، وردعا له عن ارتكاب المعاصي والجرائم. قالوا: ويكون الصلب لمدة ثلاثة أيام وقيل: لمدة يوم واحد. وجيء هنا أيضا بصيغة التضعيف لإفادة التشديد في تنفيذ هذه العقوبة وإثبات أنه لا هوادة فيها.
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أى: تقطع مختلفة، فقوله مِنْ خِلافٍ حال من أيديهم وأرجلهم أى: لا تكون اليد والرجل المقطوعتان من جانب واحد بل تكونان من جانبين مختلفين.
أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ أى، يطردوا من الأرض التي اتفقوا فيها على الإجرام إلى أرض أخرى ليتشتت شملهم، ويتفرق جمعهم، مع مراقبتهم والتضييق عليهم. وفسر بعضهم النفي بالحبس في السجون، لأن فيه إبعادا لهم وتفريقا لجمعهم.
واسم الإشارة في قوله- تعالى- ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا يعود إلى العقاب المذكور في الآية من القتل والصلب.. إلخ.
والخزي: الذل والفضيحة أى ذلك العقاب المذكور لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا أى: ذل وفضيحة وعار عليهم، لأنه كشف أمرهم، وهتك سترهم، وجعلهم عبرة لغيرهم.
هذا هو عقاب الدنيا أما عقاب الآخرة فقد بينه- سبحانه- بقوله: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ أى: لهم في الآخرة عذاب عظيم في شدته وآلامه جزاء ما اقترفوا من جرائم.