الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 54 من سورة المائدة
قوله- تعالى- مَنْ يَرْتَدَّ من الارتداد. ومعناه: الرجوع إلى الخلف ومنه قوله- تعالى- رُدُّوها عَلَيَّ أى: ارجعوها على. وقوله: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ.
والمراد بالارتداد هنا: الرجوع عن دين الإسلام إلى الكفر والضلال، والخروج من الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غيره من الأباطيل والأكاذيب.
قالوا: وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن من الذين دخلوا في الإسلام من سيرتد عنه إلى غيره من الكفر والضلال، وقد كان الأمر كما أشارت الآية الكريمة فقد ارتد عن الإسلام بعض القبائل كقبيلة بنى حنيفة- قوم مسيلمة الكذاب- وقبيلة بنى أسد، وقبيلة بنى مدلج وغيرهم.
وقد تصدى سيدنا أبو بكر الصديق ومن معه من المؤمنين الصادقين للمرتدين فكسروا شوكة الردة، وأعادوا لكلمة الإسلام هيبتها وقوتها.
قال الآلوسى ما ملخصه: هذه الآية من الكائنات التي أخبر عنها القرآن قبل وقوعها- وقد وقع المخبر به على وفقها فيكون معجزا- فقد روى أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة.
ثلاث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهم: «بنو مدلج، ورئيسهم الأسود العنسي و «بنو حنيفة» قوم مسيلمة الكذاب و «بنو أسد» قوم طليحة بن خويلد الأسدى. وسبع في عهد أبى بكر وهم:
فزارة. وغطفان، وبنو سليم، وبنو يربوع، وبعض بنى تميم، وكنده، وبنو بكر ابن وائل.
وارتدت فرقة واحدة في عهد عمر وهي قبيلة «غسان قوم جبلة بن الأيهم» .
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا يتخذ أحد منكم أحدا من أعداء الله وليا ونصيرا لأن ولايتهم تفضى إلى مضرتكم وخسرانكم. بل وإلى ردتكم عن الحق الذي آمنتم به، ومن يرتدد منكم عن دينه الحق إلى غيره من الأديان الباطلة فلن يضر الله شيئا، لأنه- سبحانه- سوف يأتى بقوم آخرين مخلصين له، ومطيعين لأوامره، ومستجيبين لتعاليمه. بدل أولئك الذين ارتدوا على أدبارهم، وكفروا بعد إيمانهم. قال- تعالى-: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ .
ولفظ فَسَوْفَ جيء به هنا لتأكيد وقوع الأمر في المستقبل، إذا ما ارتد بعض الناس على أدبارهم.
وقد وصف الله- تعالى- أولئك القوم الذين يأتى بهم بدل الذين كفروا بعد إيمانهم، وصفهم بعدد من الصفات الحميدة، والسجايا الكريمة.
وصفهم- أولا- بقوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ:
ومحبة الله- تعالى- للمؤمنين هي أسمى نعمة يتعشقونها ويتطلعون إليها، ويرجون حصولها ودوامها. وهي- كما يقول الآلوسى- محبة تليق بشأنه على المعنى الذي أراده.
ومن علاماتها: أن يوفقهم- سبحانه- لطاعته، وأن ييسر لهم الخير في كل شئونهم.
ومحبة المؤمنين لله- تعالى- معناها: التوجه إليه وحده بالعبادة، واتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، والاستجابة لتعاليمه برغبة وشوق.
وقوله: يُحِبُّهُمْ جملة في محل جر صفة لقوم. وقوله «ويحبونه» معطوف على يُحِبُّهُمْ.
وقدم- سبحانه- محبته لهم على محبتهم له، لشرفها وسبقها، إذ لولا محبته لهم لما وصلوا إلى طاعته.
وصفهم- ثانيا- بقوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ.
وقوله: أَذِلَّةٍ جمع ذليل، من تذلل إذا تواضع وحنا على غيره، وليس المراد بكونهم أذلة أنهم مهانون، بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب للمؤمنين.
وقوله: أَعِزَّةٍ جمع عزيز وهو المتصف بالعزة بمعنى القوة والامتناع عن أن يغلب أو يقهر ومنه قوله- تعالى- وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أى: غلبني في الخطاب.
والمعنى: إن من صفات هؤلاء القوم الذين يأتى الله بهم بدل الذين كفروا بعد إيمانهم، أنهم أرقاء على المؤمنين، عاطفون عليهم متواضعون لهم، تفيض قلوبهم حنوا وشفقة بهم. وأنهم في الوقت نفسه أشداء على الكافرين، ينظرون إليهم نظرة العزيز الغالب، لا نظرة الضعيف الخانع.
وهذه- كما يقول ابن كثير- صفات المؤمنين الكمل. أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه ووليه، متعززا على خصمه وعدوه كما قال- تعالى-: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ومن صفات الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنه الضحوك القتال» فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه» .
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت: هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن يضمن الذل معنى الحنو والعطف كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع.
والثاني: أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين- خافضون لهم أجنحتهم» .
وقال الطيبي: إن قوله- تعالى- أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ جيء به للتكميل، لأنه لما وصفهم قبل ذلك بالتذلل، ربما يتوهم أحد أنهم أذلاء محقرون في أنفسهم فدفع ذلك الوهم بأنهم مع ذلتهم على المؤمنين أعزة على الكافرين على حد قول القائل:
جلوس في مجالسهم رزان ... وإن ضيم ألم بهم خفاف
ثم وصفهم- ثالثا- بقوله: يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ وقوله:
يُجاهِدُونَ من المجاهدة وهي بذل الجهد ونهاية الطاقة من أجل الوصول إلى المقصد الذي يسعى إليه الساعى.
وقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ أى في سبيل إعلاء دين الله، وإعزاز كلمته وليس في سبيل الهوى أو الشيطان.
واللومة: هي المرة الواحدة من اللوم. وهو بمعنى اعتراض المعترضين، ومخالفة المخالفين وعدم رضاهم عن هؤلاء القوم.
والمعنى: أن من صفات هؤلاء القوم- أيضا- أنهم يبذلون أقصى جهدهم في سبيل إعلاء كلمة الله والعمل على مرضاته، وأنهم في جهادهم وجهرهم بكلمة الحق، وحرصهم على ما يرضيه- سبحانه- لا يخافون لوما قط من أى لائم كائنا من كان. لأن خشيتهم ليست إلا من الله وحده.
وعبر- سبحانه- بلومة- بصيغة الإفراد والتنكير، للمبالغة في نفى الخوف عنهم سواء أصدر اللوم لهم من كبير أم من صغير. وسواء أكانت اللومة شديدة أم رفيقة..
فهم- كما يقول الزمخشري-: صلاب في دينهم، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين لإنكار منكر أو أمر بمعروف- مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائل، ولا اعتراض معترض، ولا لومة لائم، والجملة على هذا معطوفة على يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ويحتمل أن تكون الواو للحال. أى أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين الذين كانوا إذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود، فلا يعملون شيئا مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم، وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم» .
وقد ذكر المفسرون أقوالا متعددة في المراد بهؤلاء القوم الذين وصفهم الله- تعالى- بتلك الصفات الكريمة، والذين يأتى بهم بدل أولئك الذين يرتدون على أعقابهم.
قال بعضهم: المراد بهم أبو بكر ومن معه من المؤمنين الذين قاتلوا المرتدين.
وقال آخرون: المراد بهم الأنصار الذين نصروا النبي صلى الله عليه وسلم وأيدوه.
وقال مجاهد: المراد بهم أهل اليمن ... وقيل غير ذلك.
والذي نراه أنهم قوم ليسوا مخصوصين بزمن معين أو بلد معين، أو أشخاص معينين، وإنما هم كل من تنطبق عليهم هذه الصفات الجليلة. فكل من أحب الله وأحبه الله، وتواضع للمؤمنين وأغلظ على الكافرين. وجاهد في سبيل الله دون أن يخشى أحدا سواه فهو منهم، أما ذواتهم فيعلمها الله وحده، لأنه لم يرد نص صحيح يعتمد عليه في بيان المراد بهؤلاء القوم.
واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ يعود على ما تقدم ذكره من أوصاف القوم.
أى: ذلك الذي أعطيناه لهم من صفات كريمة فضل الله وإحسانه، يؤتيه من يشاء إيتاءه من عباده، والله- تعالى- واسع الفضل والجود والعطاء، عليم بأحوال خلقه، لا تخفى عليه خافية من شئونهم.
هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة: وجوب المجاهدة في سبيل إعلاء كلمة الله عن طريق قتال أعدائه- سبحانه- أو عن طريق الجهر بكلمة الحق، أو عن طريق إحقاق الحق وإبطال الباطل- دون أن يخاف المجاهد لومة لائم.
ولقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث في هذا المعنى ومن ذلك:
ما رواه الإمام أحمد عن أبى ذر: أمرنى خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرنى بحب المساكين والدنو منهم، وأمرنى أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقى، وأمرنى أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرنى أن لا أسأل أحدا شيئا، وأمرنى أن أقول الحق وإن كان مرا، وأمرنى أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرنى أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنهن كنز تحت العرش» .
وعن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده. فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو أن يذكر بعظيم» .
وعنه- أيضا- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحقرن أحدكم نفسه قالوا: وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: أن يرى أمر الله فيه مقال فلا يقول فيه. فيقال له يوم القيامة. ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا؟ فيقول مخافة الناس. فيقول: إياى أحق أن تخاف» .
وهناك أحاديث أخرى في هذا المعنى سوى التي ذكرها الإمام ابن كثير ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمنكرة. وأن لا ننازع الأمر أهله. وأن نقول بالحق حيثما كنا. لا نخاف في الله لومة لائم» .