الوسيط للطنطاوي

تفسير الآية رقم 2 من سورة الحشر

ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر فضله على المؤمنين، حيث نصرهم على أعدائهم، فقال: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ....
والمراد بالذين كفروا من أهل الكتاب هنا: يهود بنى النضير، وقصتهم معروفة في كتب السنة والسيرة، وملخصها: أن هؤلاء اليهود كانوا يسكنون في ضواحي المدينة فذهب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستعين بهم في دفع دية لقتيلين قتلهما بعض المسلمين خطأ، فاستقبلوه استقبالا حسنا، وأظهروا له صلى الله عليه وسلم استعدادهم للمساعدة فيما يطلبه منهم، ثم خلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن منكم يصعد إلى أعلى هذا البيت الذي يجلس تحته محمد صلى الله عليه وسلم فيلقى عليه حجرا فيريحنا منه.
فتعهد واحد منهم بذلك، وقبل أن يتم فعله، نزل جبريل- عليه السلام- على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما أضمره اليهود من غدر وخيانة فرجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة- وأخبر أصحابه بما أضمره له يهود بنى النضير، ونزل قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ .
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يستعدوا لحصار بنى النضير، وتأديبهم على غدرهم..
فحاصرهم المؤمنون بضعا وعشرين ليلة، وانتهى الأمر بإجلائهم، عن المدينة، فمنهم من ذهب إلى خبير، ومنهم من ذهب إلى غيرها.
واللام في قوله- تعالى-: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ متعلقة بأخرج، والحشر: الجمع، يقال:
حشر القائد جنده إذا جمعهم، ومنه قوله- تعالى-: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ.
أى: هو- سبحانه- الذي أخرج- بقدرته- الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، وهم يهود بنى النضير عند مبدأ الحشر المقدر لهم في علمه، بأن مكنكم- أيها المؤمنون- من محاصرتهم وجمعهم في مكان واحد، ثم طردهم من المدينة المنورة إلى أماكن أخرى، بسبب غدرهم وسوء صنيعهم.
قال صاحب الكشاف: اللام في قوله: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ تتعلق بأخرج، وهي مثل اللام في قوله: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي وفي قولك: جئته لوقت كذا..
والمعنى: أخرج الذين كفروا عند أول الحشر. ومعنى أول الحشر: أن هذا أول حشرهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط.. أو المعنى: هذا أول حشرهم، وآخر حشرهم: إجلاء عمر- رضى الله عنه- لهم من خيبر إلى الشام.
وقيل معناه: أخرجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم، لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.. .
وقصر- سبحانه- إخراجهم عليه فقال: هو الذي أخرج الذين كفروا، مع أن المسلمين قد اشتركوا في إخراجهم عن طريق محاصرتهم للإشعار بأن السبب الحقيقي في إخراجهم من ديارهم، هو ما قذفه الله- تعالى- في قلوبهم من الرعب.. أما محاصرة المؤمنين لهم فهي أسباب فرعية، قد تؤدى إلى إخراجهم، وقد لا تؤدى، وللإشعار- أيضا- بأن كل شيء إنما هو بقضاء الله وقدره..
ووصفهم- سبحانه- بالكفر وبأنهم من أهل الكتاب، للتشنيع عليهم وزيادة مذمتهم، حيث إنهم جمعوا بين رذيلتين: رذيلة الكفر بالحق، ورذيلة عدم العمل بكتابهم الذي أمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، والذي يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر.
و «من» في قوله- تعالى-: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ للبيان، حتى لا يظن بأن المراد بالذين كفروا هنا، مشركو قريش، وإن كان الجميع يشتركون في الكفر والفسوق والعصيان.
وقوله- تعالى-: ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ... تذكير للمؤمنين بنعم الله- تعالى- عليهم.
أى: ما ظننتم- أيها المؤمنون- أن يهود بنى النضير سيخرجون من ديارهم بتلك السهولة، وذلك لتملكهم لألوان من القوة، كقوة السلاح، وكثرة العدد، ووجود من يحميهم ممن يسكنون معكم في المدينة، وهم حلفاؤهم من بنى قومهم، كبني قريظة وغيرهم، ومن غير بنى قومهم كالمنافقين الذين وعدوهم ومنوهم.
وقوله: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ معطوف على ما قبله.
أى: أنتم- أيها المؤمنون- ظننتم أن اليهود لن يخرجوا من ديارهم لما معهم من قوة، وهم- أيضا- ظنوا أن حصونهم ستمنع بأس الله عنهم، وأنها ستحول بينهم وبين خروجهم منها، ونصركم عليهم.
وقوله- سبحانه-: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ...متفرع عن الظن السابق، الذي ظنه المؤمنون، والذي ظنه أعداؤهم وهم بنو النضير.
أى: أنتم ظننتم أنهم لن يخرجوا من ديارهم، وهم ظنوا- أيضا- أن حصونهم ستمنعهم من نصركم عليهم، فكانت النتيجة أن أتاهم بأس الله وعقابه من حيث لم يحتسبوا ومن حيث لم يخطر ببال، بأن قذف في قلوبهم الرعب والفزع فخرجوا من حصونهم التي تمنعوا بها، ومن ديارهم التي سكنوها زمنا طويلا صاغرين أذلاء.
والتعبير بقوله: مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا إشارة إلى أن ما نزل بهم من هزيمة، لم يكونوا يتوقعونها أصلا، إذ الاحتساب مبالغة في الحسبان، أى: أتاهم عقاب الله- تعالى- من المكان الذي كانوا يعتقدون أمانهم فيه، وفي زمان لم يكونوا أصلا يتوقعون حلول هزيمتهم عنده.
وعبر- سبحانه- بالقذف، لأنه كناية عن الرمي بقوة وعنف وسرعة. والرعب: شدة الخوف والفزع، وأصله: الامتلاء. تقول: رعبت الحوض إذا ملأته.
أى: وقذف- سبحانه- في قلوبهم الرعب الذي ملأها بالجزع والفزع فاستسلموا بسبب ذلك لما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم.
ثم بين- سبحانه- ما حدث منهم خلال جلائهم فقال: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ والتخريب: إسقاط البناء وهدمه أو إفساده.
أى: أن هؤلاء اليهود، بلغ من سوء نيتهم، ومن اضطراب أمرهم، أنهم عند ما أجمعوا أمرهم على الرحيل عن المدينة، أخذوا يخربون بيوتهم بأيديهم، عن طريق إسقاط بنائها، وهدم السليم منها، وإزالة ما اشتملت عليه من أبواب وغيرها.. حتى لا ينتفع المسلمون بها من بعدهم..
وأخذوا يخربونها- أيضا- بأيدى المؤمنين، أى: بسبب أن المؤمنين كانوا يزيلون من طريقهم كل عقبة حتى يقتحموا عليهم ديارهم، فترتب على ذلك أن هدموا بعض بيوت بنى النضير من الخارج، ليستطيعوا التمكن منهم.
قال صاحب الكشاف: ما معنى تخريبهم لها بأيدى المؤمنين؟ قلت: لما عرّضوهم لذلك، وكانوا السبب فيه. فكأنهم أمروهم به، وكلفوهم إياه ... .
أى: أن يهود بنى النضير بسبب تحصنهم في ديارهم، ومحاولتهم عدم النزول على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم حملوا المؤمنين على تخريب هذه الحصون من الخارج، ليدخلوا عليهم..
والخطاب في قوله- تعالى-: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ لكل من يصلح له.
قال الجمل في حاشيته: والاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة، لأنها تنتقل من العين إلى الخد. وسمى علم التعبير بذلك، لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات، لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع، ويقال: السعيد من اعتبر بغيره، لأنه ينتقل بواسطة عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه.
ولهذا قال القشيري: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء، وجهات دلالتها، ليعرف بالنظر فيها شيء آخر..
أى: إذا كان الأمر كما بينا لكم- أيها الناس-، فاعتبروا واتعظوا يا أصحاب العقول السليمة، والعيون الناظرة، بما جرى لهؤلاء اليهود، حيث دبر الله- تعالى أمر إخراجهم من ديارهم تدبيرا حكيما، ونصر المؤمنين عليهم بأيسر طريق، وجعل ديارهم من بعدهم، خير عبرة وعظة لكل ذي بصر، فقد خلفوها من بعدهم شاهد صدق على أن الغدر نهايته الخسران.. وعلى أن النصر إنما هو لمن اتبع الصدق والوفاء بالعهد..
قال الآلوسى: واشتهر الاستدلال بهذه الجملة، على مشروعية العمل بالقياس الشرعي، قالوا: لأنه- تعالى- أمر فيها بالاعتبار، وهو العبور والانتقال من الشيء إلى غيره، وذلك متحقق في القياس، إذ فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع.. .