الوسيط للطنطاوي

تفسير الآية رقم 7 من سورة الحشر

وقوله- تعالى-: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ... يرى كثير من العلماء أنه وارد على سبيل الاستئناف الابتدائى، وأنه سيق لبيان حكم شرعي جديد، يختلف عن الحكم الذي أوردته الآية السابقة على هذه الآية..
إذ أن الآية السابقة، واردة في حكم أموال بنى النضير بصفة خاصة، وهذه في حكم الفيء بعد ذلك بصفة عامة.
وعليه يكون المعنى: لقد بينت لكم- أيها المؤمنون- حكم أموال بنى النضير، وهي أنها لرسولنا صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء.
أما ما أفاءه الله- تعالى- على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال أهل القرى الأخرى، كقريظة وفدك وغيرهما فحكم هذا الفيء أنه يقسم إلى خمسة أقسام:
قسم للرسول صلى الله عليه وسلم ينفق منه على نفسه وأهله وما تبقى منه يكون في مصالح المسلمين.
وقسم لأقاربه صلى الله عليه وسلم وهم: بنو هاشم وبنو المطلب..
وقسم لليتامى: وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم عنهم قبل أن يبلغوا.
وقسم للمساكين: وهم الذين ليس لهم مال يكفيهم ضروريات الحياة.
وقسم لأبناء السبيل: وهم المسافرون المنقطعون عن مالهم في سفرهم، ولو كانوا أغنياء في بلدهم..
وقد رجح الإمام ابن جرير هذا الرأى، فقال بعد استعراضه للأقوال: والصواب من القول في ذلك عندي أن هذه الآية حكمها غير حكم الآية التي قبلها وذلك أن الآية التي قبلها، مال جعله الله- عز وجل- لرسوله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيره. لم يجعل فيه لأحد نصيبا..
فإذا كانت هذه الآية التي قبلها مضت، وذكر المال الذي خص الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يجعل لأحد منه شيئا، وكانت هذه الآية خبرا عن المال الذي جعله الله لأصناف شتى، كان معلوما بذلك أن المال الذي جعله لأصناف من خلقه. غير المال الذي جعله للنبي صلى الله عليه وسلم .
وقال الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: قوله- تعالى-: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ... بيان لحكم ما أفاءه الله على رسوله من قرى الكفار على العموم، بعد بيان حكم ما أفاءه من بنى النضير ...
فالجملة جواب سؤال مقدر ناشئ مما فهم من الكلام السابق، فكأن قائلا يقول: قد علمنا حكم ما أفاءه الله- تعالى- من بنى النضير، فما حكم ما أفاء الله- عز وجل- من غيرهم؟ ...
فقيل: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى. ولذا لم يعطف على ما تقدم، ولم يذكر في الآية قيد الإيجاف ولا عدمه ...
وسهمه- سبحانه- وسهم رسوله واحد، وذكره- تعالى-: افتتاح كلام للتيمن والتبرك. فإن لله ما في السموات وما في الأرض، وفيه تعظيم لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأهل القرى المذكورون في الآية هم: أهل الصفراء، وينبع، ووادي القرى، وما هنالك من قرى العرب، التي تسمى قرى عرينة، وحكمها مخالف لحكم أموال بنى النضير .
ومن العلماء من يرى أن الآية التي معنا، بمنزلة البيان والتفسير للآية التي قبلها، لأن الآية الأولى لم تبين المستحقين للفيء الذي أفاءه الله- تعالى- على رسوله من أموال بنى النضير، فجاءت الآية الثانية وبينت المستحقين له.
وعلى رأس المفسرين الذين قالوا بهذا الرأى صاحب الكشاف، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية:
لم يدخل- سبحانه- العاطف على هذه الجملة- وهي قوله: ما أَفاءَ ... - لأنها بيان للأولى، فهي منها غير أجنبية عنها. بين لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يصنع بما أفاءه الله عليه، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم، مقسوما على الأقسام الخمسة .
وقال الإمام ابن كثير: قوله- تعالى-: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى: أى جميع البلدان التي تفتح هكذا، فحكمها حكم أموال بنى النضير، ولهذا قال: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه.. .
ومن هذا نرى أن أصحاب الرأى الأول، يقولون: إن الآيتين في حكمين مختلفين، لأن الآية الأولى في بيان حكم أموال بنى النضير، وأن الله- تعالى- قد جعلها للرسول صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء، وأما الآية الثانية فهي في حكم أموال القرى الأخرى التي أفاءها الله- تعالى- على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الله- تعالى- قد حدد له وجوه صرفها، فقال: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى....
وأما أصحاب الرأى الثاني فيرون أن الآية الثانية مفصلة لما أجملته الآية الأولى، وأن كل فيء يقسم بالطريقة التي بينتها الآية الثانية.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب، لأن الثابت في السنة الصحيحة: أن أموال بنى النضير، لم يخمسها صلى الله عليه وسلم بل كانت له خاصة، يوزعها كما يشاء، وقد آثر بها المهاجرين، وقسمها عليهم: ولم يعط الأنصار منها شيئا سوى ثلاثة رجال منهم، كانت بهم حاجة فأعطاهم، وبذلك نرى أنه صلى الله عليه وسلم لم يتقيد في التوزيع لهذه الأموال، بمن ورد ذكرهم في الآية الثانية.
وما دام الأمر كذلك، فلا حاجة إلى القول بأن الآية الثانية، بيان وتفصيل للآية الأولى.
هذا وهناك أقوال أخرى في معنى هذه الآية، مبسوطة في كتب الفقه والتفسير، فليرجع إليها من شاء المزيد من الأحكام الفقهية.. .
وقوله- سبحانه-: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ... بيان لحكمة هذا التشريع الذي شرعه- سبحانه- بالنسبة للأموال التي أتت عن طريق الفيء.. والضمير المستتر في قوله: يَكُونَ للفيء.
و «الدّولة» بضم الدال المشددة اسم لما يتداوله الناس فيما بينهم من أموال، فيكون في يد هذا تارة، وفي يد ذاك تارة أخرى.
والدّولة- بفتح الدال المشددة- اسم للنوبة من الظفر والنصر في الحرب وغيرها.
يقال: لفلان على فلان دولة، أى: غلبة ونصر.
وبعضهم يرى أن الدولة- بالضم والفتح- بمعنى واحد، وهو ما يدور ويدول للإنسان من الغنى والنصر.
والمعنى: شرعنا لكم هذه الأحكام المتعلقة بتقسيم الفيء، كي لا يكون المال الناجم عنه، متداولا بين أيدى أغنيائكم دون فقرائكم.
والمقصود بهذه الجملة الكريمة، إبطال ما كان شائعا في الجاهلية، من استئثار قواد الجيوش، ورؤساء القبائل، بالكثير من الغنائم دون غيرهم ممن اشترك معهم في الحروب، كما قال أحد الشعراء، لأحد الرؤساء أو القادة:
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنّشيطة والفضول
أى: لك- أيها القائد وحدك- من الغنيمة ربعها، والصفايا أى: والنفيس منها، ولك- أيضا ما تحكم به على العدو، ولك النشيطة، وهي ما يصيبه الجيش من العدو قبل الحرب، ولك- كذلك- الفضول، أى: ما يبقى بعد قسمة الغنائم.
وقد أبطل الإسلام كل ذلك، حيث جعل مصارف الفيء، تعود إلى المسلمين جميعا، بطريقة عادلة، بينها- سبحانه- في هذه الآية وفي غيرها..
قال بعض العلماء: والجدير بالذكر هنا: أن دعاة المذاهب الاقتصادية الفاسدة، يحتجون بهذه الآية على مذهبهم الفاسد، ويقولون: ويجوز للدولة أن تستولى على مصادر الإنتاج ورءوس الأموال، لتعطيها أو تشرك فيها الفقراء، وما يسمونهم طبقة العمال، وهذا على ما فيه من كساد اقتصادى، وفساد اجتماعي، قد ثبت خطؤه وظهر بطلانه مجانبا لحقيقة الاستدلال.
لأن هذا المال ترك لمرافق المسلمين العامة، من الإنفاق على المجاهدين، وتأمين الغزاة في الحدود والثغور، وليس يعطى للأفراد كما يقولون، ثم- هو أساسا- مال جاء غنيمة للمسلمين، وليس نتيجة كدح الفرد وكسبه الحلال.
ولما كان مال الغنيمة ليس ملكا لشخص، ولا هو- أيضا- كسب لشخص معين، تحقق فيه العموم في مصدره، وهو الغنيمة، والعموم في مصرفه وهو عموم مصالح الأمة، ولا دخل ولا وجود للفرد فيه، فشتان بين هذا الأصل في التشريع، وهذا الفرع في التضليل. .
ثم أمر- سبحانه- المسلمين أن يمتثلوا أمر رسولهم صلى الله عليه وسلم امتثالا تاما، فقال:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
وقوله: آتاكُمُ من الإتيان، والمقصود به هنا ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من هدايات وتشريعات، وآداب. ويدخل في ذلك دخولا أوليا قسمته لفيء بنى النضير بين المهاجرين، دون الأنصار.
أى: ما أمركم الرسول صلى الله عليه وسلم بفعله- أيها المؤمنون- فافعلوه، وما نهاكم عن فعله فاجتنبوه، واتقوا الله في كل أحوالكم، فإنه- سبحانه- شديد العقاب لمن خالف أمره.
ومنهم من جعل آتاكُمُ هنا بمعنى أعطاكم من الفيء، وجعل نَهاكُمْ بمعنى نهاكم عن الأخذ منه، وكأن صاحب هذا الرأى يستعين على ما ذهب إليه بفحوى المقام.
قال صاحب الكشاف: قوله: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ من قسمة غنيمة أو فيء فخذوه وما نهاكم عنه، أى: عن أخذه منه فَانْتَهُوا عنه.
والأجود أن يكون- الأمر والنهى- عاما في كل ما آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، وأمر الفيء داخل في عمومه.. .
وقال الإمام ابن كثير: وقوله- تعالى-: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
أى: مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير، وينهى عن شر.
أخرج الشيخان عن ابن مسعود أنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، والمغيرات لخلق الله- عز وجل- فبلغ ذلك امرأة من بنى أسد يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت: بلغني انك قلت كذا وكذا، فقال: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله.
فقالت: لقد قرأت ما بين لوحى المصحف فما وجدته. فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا؟ قالت:
بلى.
قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه. قالت: إنى لأظن أهلك يفعلونه!! ..
قال: اذهبي فانظرى، فذهبت فلم تر من حاجتها شيئا. فجاءت فقالت: ما رأيت شيئا. قال: لو كان كذا لم تجامعنا.. .
وقال بعض العلماء وفي الآية دليل على وجوب الأخذ بالسنن الصحيحة في كل الأمور.
وعن أبى رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى!! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ... »
وهذا الحديث من أعلام النبوة، فقد وقع ذلك بعد من الجاهلين بكتاب الله، وبمنصب الرسالة، ومن الزنادقة الصادين عن سبيل الله.. .