الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 3 من سورة الممتحنة
ثم بين- سبحانه- الآثار السيئة التي تترتب على ضلالهم عن سواء السبيل فقال:
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ. وَلا أَوْلادُكُمْ، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ....
والأرحام: جمع رحم والمراد بهم الأقارب، الذين كان بعض المؤمنين يوالون المشركين من أجلهم.
أى: منكم- أيها المؤمنون- من أفشى أسراركم للكافرين، خوفا على أقاربه أو أولاده الذين يعيشون في مكة مع هؤلاء الكافرين، والحق أنه لن تنفعكم قراباتكم ولا أولادكم الذين توالون المشركين من أجلهم شيئا من النفع يوم القيامة، لأنه في هذا اليوم يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ أى يفرق بينكم وبين أقاربكم وأولادكم يوم القيامة، كما قال- تعالى-: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ وكما قال- سبحانه-: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ.
وخص- سبحانه- الأولاد بالذكر مع أنهم من الأرحام، لمزيد المحبة لهم- والحنو عليهم.
قال الشوكانى:، وجملة يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ مستأنفة لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد في ذلك اليوم. ومعنى يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ يفرق بينكم، فيدخل أهل طاعته الجنة.
ويدخل أهل معصيته النار، وقيل: المراد بالفصل بينهم، أنه يفر كل منهم من الآخر من شدة الهول.. قيل: ويجوز أن يتعلق يَوْمَ الْقِيامَةِ بما قبله. أى: لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة، فيوقف عليه، ويبتدأ بقوله يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ والأولى أن يتعلق بما بعده- أى: يفصل بينكم يوم القيامة، فيوقف على أَوْلادُكُمْ ويبتدأ بيوم القيامة .
وقراءة الجمهور يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ- بضم الياء وإسكان الفاء وفتح الصاد- على البناء للمجهول. وقرأ عاصم يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بفتح الياء وكسر الصاد- على البناء للفاعل، وقرأ حمزة والكسائي يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ- بضم الياء وفتح الفاء وتشديد الصاد مع الكسر- بالبناء للفاعل- أيضا-.
وقرأ ابن عامر يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ- بضم الياء وفتح الفاء وتشديد الصاد مع الفتح- على البناء للمجهول.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أى: والله- تعالى- لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، بل هو مطلع عليها اطلاعا تاما وسيجازيكم يوم القيامة بما تستحقونه من ثواب أو عقاب.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من الآيات الكريمة ما يأتى:
1- أن هذه الآيات أصل في النهى عن موالاة الأعداء ومصافاتهم بأية صورة من الصور، وشبيه بها قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً .
وقوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا. وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ.
2- أن هذه الآيات الكريمة تتجلى فيها رحمة الله- تعالى- بعباده المؤمنين، حيث ناداهم بهذه الصفة مع وقوع بعضهم في الخطأ الجسيم، وهو إفشاء أسرار المؤمنين لأعدائهم قالوا: وفي هذا رد على المعتزلة الذين يقولون: إن المعصية تنافى الإيمان.
3- أن هذه الآيات الكريمة فيها ما فيها من الأساليب الحكيمة في الدعوة إلى الفضائل واجتناب الرذائل، لأن الله- تعالى- عند ما نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأعدائهم، ساق لهم الأسباب التي تحملهم على قطع كل صلة بهؤلاء الأعداء. بأن ذكر لهم أن هؤلاء الأعداء قد كفروا بالحق، وحرصوا على إخراج الرسول والمؤمنين من ديارهم، وأنهم إن يتمكنوا من المؤمنين، فسينزلون بهم أشد ألوان الأذى.
وهكذا يجب أن يتعلم الدعاة إلى الله- تعالى- أن على رأس الوسائل التي توصلهم إلى النجاح في دعوتهم، أن يأتوا في دعوتهم بالأسباب المقنعة لاعتناق الحق، واجتناب الباطل.
4- أن هذه الآيات الكريمة صريحة في أن ما يتعلق بالدين والعقيدة، يجب أن يقدم على ما يتعلق بالأرحام والأولاد، لأن الأرحام والأولاد لن تنفع يوم القيامة، وإنما الذي ينفع هو ما يتعلق بالاستجابة لما يفرضه الدين علينا من واجبات وتكاليف.
وبعد هذا النهى للمؤمنين عن موالاة أعداء الله وأعدائهم.. ساقت لهم السورة الكريمة، جانبا من قصة إبراهيم- عليه السلام- الذي تبرأ من كل صلة تربطه بغيره سوى صلة الإيمان، وإخلاص العبادة لله- تعالى-، وأمرتهم بأن يقتدوا به في ذلك لينالوا رضا الله- عز وجل- فقال- تعالى-: