الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 1 من سورة الأنفال
سورة الأنفال
تمهيد بين يدي تفسير السورة
1- سورة الأنفال هي السورة الثامنة في ترتيب المصحف، فقد تقدمتها سورة الفاتحة وهي مكية، ثم جاءت بعد سورة الفاتحة أربع سور مدنية، هن أطول السور المدنية في القرآن الكريم، وهن سور: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة. ثم جاءت بعد هذه السور الأربع سورتان مكيتان، وهما أطول السور المكية في القرآن، سورتا: الأنعام والأعراف.
ثم جاءت سورة الأنفال بعد ذلك، فكانت الثامنة في ترتيب سور المصحف.
2- وعدد آياتها خمس وسبعون آية في المصحف الكوفي، وست وسبعون في الحجازي، وسبع وسبعون في الشامي.
3- وقد سميت سورة الأنفال بهذا الإسم، لحديثها عن الأنفال أى الغنائم في أكثر من موضع.
وقد أطلق عليها بعض الصحابة سورة بدر، فقد أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أن ابن عباس سئل عنها فقال: تلك سورة بدر .
4- وسورة الأنفال كلها مدنية، وممن قال بذلك: زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح والحسن، وعكرمة.
قال صاحب المنار: وقيل إنها مدنية إلا آية «64» وهي قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فقد روى البزار عن ابن عباس أنها نزلت لما أسلم عمر بن الخطاب، فعلى هذا وضعت في سورة الأنفال وقرئت مع آياتها التي نزلت في التحريض على القتال في غزوة بدر لمناسبتها للمقام، وروى عن مقاتل استثناء قوله- تعالى- وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ ... «الآية «30» لأن موضوعها ائتمار قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم قبيل الهجرة، بل في الليلة التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبى بكر بقصد الهجرة وباتا في الغار، وهذا استنباط من المعنى، وهو استنباط يرده ما صح عن ابن عباس من أن الآية نفسها نزلت في المدينة.
وزاد بعضهم استثناء خمس آيات أخرى بعد هذه الآية، وهي قوله- تعالى-: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا.. إلى قوله: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ «الآيات من 31- 35» لأن موضوعها حال كفار قريش في مكة، وهذا لا يقتضى نزولها في مكة، بل ذكّر الله بها رسوله بعد الهجرة، وكل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني».
والذي ترتاح إليه النفس أن سورة الأنفال جميعها مدنية، وأن ما في بعض آياتها من أوصاف لأحوال المشركين في مكة قبل الهجرة لا يعنى كون هذه الآيات مكية لأن هذه الآيات إنما هي من باب تذكير الرسول وأصحابه بما كان عليه أولئك القوم من عناد ومكابرة وانحراف عن الطريق القويم، أدى بهم إلى الهزيمة في بدر وفي غيرها من المعارك التي كان النصر فيها للمؤمنين.
5- وقد ذكر بعض المفسرين- ومنهم الزمخشري- أن سورة الأنفال نزلت بعد سورة البقرة، ولعل مرادهم بذلك أن نزولها كان بعد نزول بعض الآيات من سورة البقرة، لأنه من المعروف أن سورة البقرة لم تنزل دفعة واحدة، وإنما ابتدأ نزولها بعد الهجرة، ثم امتد هذا النزول لآياتها إلى قبيل وفاة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بمدة قصيرة.
6- قال الآلوسى: ووجه مناسبتها لسورة الأعراف أن سورة الأعراف فيها خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ... وفي هذه- أى الأنفال- كثير من أفراد المأمور به، وفي الأعراف ذكر قصص الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- مع أقوامهم، وفي هذه ذكره صلى الله عليه وسلم وذكر ما جرى بينه وبين قومه.
وقد فصل- سبحانه- في تلك- قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم وأجمل في هذه ذلك فقال: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ...
وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله- تعالى-: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها ... وصرح بذلك هنا إذ يقول.. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا ... إلى غير ذلك من المناسبات.
ثم قال الآلوسى: «والظاهر أن وضعها هنا توقيفي، وكذا وضع براءة بعدها، وإلى ذلك ذهب غير واحد ... ».
والحق أنه بمطالعتنا لما يقوله الآلوسى وغيره من المفسرين في بيان وجه مناسبة السورة للتي قبلها، نرى أن هذه الأقوال لا تخلو من تكلف، وأن كثيرا مما ذكروه من مناسبات بين سورتين معينتين لا يختص بهما، بل هو موجود فيهما وفي غيرهما.
فالآلوسى- مثلا- يجعل من وجوه مناسبة الأنفال للأعراف أن الأعراف فيها وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ. وأن الأنفال فيها كثير من أفراد المأمور به..
وهذا المعنى نراه في كثير من السور المتتالية، فسورة آل عمران- مثلا- من بين آياتها قوله- تعالى-: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...
وسورة النساء- التي بعدها- فيها- أيضا- كثير من أفراد المأمور به لأن الأمر بالمعروف من الدعائم التي يقوم عليها المجتمع الإسلامى.
والذي تميل إليه النفس أن ترتيب السور توقيفي، وأن كل سورة لها موضوعاتها التي نراها بارزة بصورة تميزها عن غيرها.
7- وسورة الأنفال عند ما نتأمل ما اشتملت عليه من آيات، نراها تحدثنا- في مجموعها- عن غزوة بدر، فتعرض أحداثها الظاهرة، كما تعرض بشارات النصر فيها، وتكشف عن قدرة الله وتدبيره في وقائع هذه الغزوة الحاسمة، وتبين كثيرا من الإرشادات والتشريعات الحربية التي يجب على المؤمنين اتباعها حتى ينالوا النجاح والفلاح.
أخرج البخاري عن ابن عباس أن سورة الأنفال نزلت في بدر:
(أ) لقد افتتحت السورة الكريمة ببيان أن قسمة الأنفال أى- الغنائم- مردها إلى الله ورسوله، وأن على المؤمنين أن يذعنوا لما يفعله فيها رسولهم صلى الله عليه وسلم ثم وصفت المؤمنين الصادقين أكمل وصف، وبشرتهم بأسمى المنازل، وأرفع الدرجات.
قال- تعالى-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.
(ب) وبعد هذا الحديث الطيب عن أوصاف المؤمنين الصادقين، تبدأ السورة في الحديث عن حال بعض الذين اشتركوا في غزوة بدر، وكيف أنهم كرهوا القتال في أول الأمر، لأنهم لم يخرجوا من أجله وإنما خرجوا من أجل الحصول على التجارة التي قدم بها مشركو قريش من بلاد الشام لكن الله- تعالى- أراد أن يعلمهم وغيرهم أن الخير فيما قدره، لا فيما يقدرون ويريدون.
استمع إلى السورة الكريمة بتأمل وتدبر وهي تصور هذه المعاني بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول.
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ.
(ج) ثم تسوق السورة بعد ذلك ألوانا من البشارات التي تشعر المؤمنين بأن الله- تعالى- قد أجاب لهم دعاءهم، وأنه- سبحانه- سيجعل النصر في هذه المعركة حليفا لهم.
ومن مظاهر هذه البشارات أن الله- تعالى- أمدهم بألف من الملائكة مردفين، وأمدهم بالنعاس ليكون مصدر طمأنينة لقلوبهم، وأمدهم بمياه الأمطار ليتطهروا بها، ولتثبت الأرض من تحتهم، وأمدهم قبل ذلك وبعده بعونه الذي جعلهم يقبلون على قتال أعدائهم بقلوب ملؤها الإقدام والشجاعة.
قال- تعالى-: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ.
(د) ثم وجهت السورة الكريمة خمسة نداءات إلى المؤمنين، أرشدتهم في كل واحد منها إلى ما فيه خيرهم وفلاحهم.
فقد أمرتهم في النداء الأول بالثبات في وجوه أعدائهم، ونهتهم عن الفرار منهم، وهددت من يوليهم دبره بسوء المصير، وأخبرتهم بأن الله معهم ما داموا معتمدين عليه، ومستجيبين لما يدعوهم إليه.
وأمرتهم في النداء الثاني بطاعة الله ورسوله، وحذرتهم من المعصية، ومن التشبه بالكافرين الذين «قالوا سمعنا وهم لا يسمعون» .
وأمرتهم في النداء الثالث بالمسارعة إلى أداء ما كلفوا به من تكاليف فيها سعادتهم وفلاحهم، وخوفتهم من ارتكاب ذنوب لا يحيق شرها بالذين ارتكبوها وحدهم، وإنما يعمهم وغيرهم ممن رأوا المنكر فلم يعملوا على تغييره.
ونهتهم في النداء الرابع عن خيانة الله ورسوله، أى: عن ترك فرائض الله، وعن هجر سنة رسوله.. وحذرتهم من أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن طاعة الله وعن أداء واجباته.
ثم بشرتهم في النداء الخامس بأنهم إذا ما اتقوا الله حق تقاته، فإنه- سبحانه- سيرزقهم الهداية والنصر والنجاة من كل مكروه.
تدبر معى- أخى القارئ- هذه النداءات، وما اشتملت عليه من توجيهات سامية وإرشادات عالية، حيث يقول- سبحانه-:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ..
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ..
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ..
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ..
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ..
(هـ) ثم أخذت السورة بعد ذلك في تذكير المؤمنين بنعم الله عليهم ليزدادوا له شكرا، وفي تصوير ما عليه الكافرون من جهل وعناد وخسران.
فحكت ما قالوه في شأن القرآن من كذب ومكابرة.
وحكت استهزاءهم بالدين، وإمعانهم في الجحود، وتعجلهم للعذاب..
وحكت ما كانوا يقومون به من تصفيق ولغو عند قراءة القرآن، حتى يشغلوا الناس عن سماعه..
وحكت مسارعتهم إلى إنفاق أموالهم، لا في وجوه الخير، ولكن في وجوه الشر التي ستكون عاقبتها الخسران وسوء المصير.
وبعد أن حكت كل هذه الرذائل عن الكافرين، أمرت الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغهم أنهم إذا ما انتهوا عن كفرهم وعنادهم، فإن الله- تعالى- سيغفر لهم ما سلف من ذنوبهم.
أما إذا استمروا في طغيانهم وجحودهم، فستدور الدائرة عليهم.
قال- تعالى-: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا، لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
(و) وبعد أن افتتحت السورة الكريمة بالحديث المجمل عن الغنائم وساقت في أعقابه ما ساقت من توجيه وإرشاد وترغيب وترهيب.
بعد كل ذلك عادت السورة إلى الحديث عن الغنائم، ففصلت ما أجملته في مطلعها، وذكّرت المؤمنين بنعم أخرى منحهم الله إياها في بدر.
ومن ذلك: أنّه- سبحانه- هيأ لهم المكان المناسب لقتال أعدائهم، وجعل اللقاء الحاسم بين الفريقين بدون موعد سابق.. وقلل كل فريق في عين الآخر ليقضى- سبحانه- قضاءه النافذ..
قال- تعالى-: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ.
(ز) ثم يأتى بعد ذلك النداء السادس والأخير للمؤمنين، فيأمرهم- سبحانه- فيه بالثبات عند لقائهم لأعدائهم، وبالإكثار من ذكره، وبالطاعة التامة له ولرسوله، وبالابتعاد عن التنازع والاختلاف.
ثم ينهاهم عن التشبه بالمرائين، والمتكبرين، والمغرورين، الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم- ولكنه عند ما تراءى الجمعان نكص على عقبيه- والذين سيكون مصيرهم الهزيمة في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة بسبب كفرهم بآيات الله، وإيثارهم الضلالة على الهداية.
قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ، فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ.
(ح) ثم تمضى السورة الكريمة في تصوير رذائل الكافرين، وفي تشجيع المؤمنين على قتالهم، وإعداد العدة لدحرهم وتشريدهم ما داموا مستمرين على كفرهم وخيانتهم..، فإن جنحوا للسلم. ومالوا إلى المصالحة والمهادنة فاقبل منهم ذلك- أيها الرسول الكريم،واحترس من خداعهم وغدرهم، وحرض أتباعك على قتالهم بصبر وجلد.
قال- تعالى-: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ. فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
(ط) ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن أسرى غزوة بدر من المشركين فبينت ما كان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في شأنهم، وعاتبتهم لإيثارهم أخذ الفداء على ما عند الله من ثواب عظيم، وأباحت لهم أن يأكلوا مما غنموه، فإنه حلال طيب، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الأسرى إلى الدين الحق، وأن يخبرهم بأنهم متى آمنوا ظفروا بخير الدنيا والآخرة..
تأمل معى- أخى القارئ- هذه الآيات الكريمة التي ساقتها السورة في هذا المعنى.
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
(ى) وإذا كانت السورة قد تحدثت في أوائلها عن صفات المؤمنين.. الصادقين، وعن حال الذين كرهوا الخروج إلى القتال في بدر.. فإنها قد تحدثت في ختامها- أيضا- عن أصناف المؤمنين.. فمدحت المهاجرين السابقين، ومدحت الأنصار الذين آووا ونصروا، لأنهم قد اشتركوا جميعا في بذل أموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله.. ثم بينت ما يجب عليهم نحو غيرهم من المؤمنين الذين لم يهاجروا، بل ظلوا في أرض الشرك. ثم مدحت المؤمنين الذين تأخرت هجرتهم عن صلح الحديبية- وإن كانوا أقل في الدرجات من المهاجرين السابقين.
قال- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
8- هذا عرض مجمل لما اشتملت عليه سورة الأنفال من توجيهات سامية، وآداب عالية، وتشريعات حكيمة ...
ومن هذا العرض نرى أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور من أبرزها ما يلي:
(ا) تربية المؤمنين على العقيدة السليمة، وعلى الطاعة لله ولرسوله. وإصلاح ذات بينهم، والثبات في وجه أعدائهم، والإكثار من التقرب إلى خالقهم، والمداومة على مراقبته وخشيته وشكره، فهو الذي هداهم للإيمان، وهو الذي آواهم وأيدهم بنصره ورزقهم من الطيبات.. بعد أن كانوا ضالين ومستضعفين في الأرض.
ولقد أفاضت السورة في غرس هذه المعاني في نفوس المؤمنين لأنها نزلت كما سبق أن بينا- في أعقاب اللقاء الأول بينهم وبين أعدائهم- فكان من المناسب أن تكرر غرس هذه المعاني في القلوب حتى تستمر على طاعة الله ورسوله، تلك الطاعة التي من ثمارها الظفر الدائم والخير الباقي..
(ب) تذكير المؤمنين بما عليه أعداؤهم من جحود وعناد، وبما كان منهم من مكر برسولهم صلى الله عليه وسلم ومن استهزائهم بدينهم وقرآنهم ومن عداوة شديدة للحق وأهله، ومن صفات ذميمة جعلتهم أهلا لاستحواذ الشيطان عليهم ...
وهذا التذكير قد تكرر كثيرا في سورتنا هذه، لكي يستمر المؤمنون على حسن استعدادهم، ولكي لا تنسيهم نشوة النصر في بدر ما يضمره لهم أعداؤهم من كراهية وبغضاء، وما يبيتونه لهم من سوء وشر.
(ج) إرشاد المؤمنين إلى المنهاج الذي يجب أن يسيروا عليه في حالتي حربهم وسلمهم، لأنه متى ساروا عليه حالفهم النصر، وصاحبهم التوفيق.
ففي حالة الحرب: أمرتهم السورة الكريمة بأن يعدوا لأعدائهم كل ما يستطيعون من قوة.
وأن يبذلوا أموالهم بسخاء من أجل نصرة الحق.. وأن يقاتلوا خصومهم بشجاعة وإقدام، وأن يكثروا من التقرب إلى الله بصالح الأقوال والأعمال- خصوصا في مواطن القتال-.. وأن يجعلوا غايتهم في قتالهم إحقاق الحق وإبطال الباطل حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ....
وأن يؤثروا السلم على الحرب متى وجد السبيل إليه، فإن السلم هو الأصل أما الحرب فهي أمر لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة التي تقتضيها.. أما في حالة سلمهم: فقد أمرتهم السورة الكريمة بالتآخى والتناصر والتواد والتراحم والتصالح.. ونبذ التنازع والتخاصم والاختلاف والبطر.
كما أمرتهم بتقوى الله وبإيثار ما عنده من ثواب وأجر على الأموال والأولاد.
قال- تعالى-: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
وهناك موضوعات أخرى تعرضت لها السورة:
كحديثها عن الغنائم، وعن الأسرى، وعن المعاهدات، وعن أحداث غزوة بدر، وعن المشاعر التي تحركت في نفوس بعض المشتركين فيها قبل أن تبدأ المعركة وخلالها وبعدها.
وقد ساقت السورة الكريمة كل ذلك بأسلوب يهدى القلوب، ويشرح الصدور، ويرشد الناس إلى مواطن عزهم وسعادتهم.
هذا، ونرى من المناسب- أخى القارئ- أن نختم هذا العرض المجمل لسورة بدر- كما سماها ابن عباس- بتلخيص لقصة هذه الغزوة لنتنسم الجو الذي نزلت فيه هذه السورة، ولندرك مرامي النصوص فيها.. لأننا نعتقد أن ما يعين على فهم الآيات القرآنية فهما قويما مستنيرا، أن يكون القارئ أو المفسر لها ملما بأسباب نزولها وبالجو التاريخى الذي نزلت فيه، وبالأحداث التي لا بست نزولها.. يجانب إلمامه بمدلولاتها اللغوية والبيانية..
قال الإمام ابن هشام عند حديثه عن «غزوة بدر الكبرى».
قال ابن إسحاق: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبى سفيان مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة.. ندب المسلمين إليها وقال: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها» فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا.
وكان أبو سفيان- حين دنا من الحجاز- يتجسس الأخبار، ويسأل من لقى من الركبان: تخوفا على أمر الناس- أى: على أموالهم التي معه في القافلة حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك. فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتى قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.
فلما وصلها أخذ يصرخ ببطن الوادي.. ويقول يا معشر قريش: اللطيمة اللطيمة- أى:
العير التي تحمل الطيب والمسك والثياب..- أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها. الغوث الغوث.
فتجهز الناس سراعا وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد.
- خرجوا بالقيان والدفوف يغنين في كل منهل، وينحرون الجزر، وهم تسعمائة وخمسون مقاتلا، وقادوا مائة فرس، عليها مائة درع سوى درع المشاة، وكانت إبلهم سبعمائة بعير.
قال ابن إسحاق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه: واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس، واستعمل على المدينة أبا لبابة.. ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير.
وكان إبل المسلمين يومئذ سبعين بعيرا، فاعتقبوها- أى كانوا يركبونها بالتعاقب- وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ.
وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقه من المدينة إلى مكة على نقب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحليفة.. ثم نزل قريبا من بدر.. وأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر فقال وأحسن.
ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشيروا على أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، وذلك لأنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله: إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلى ديارنا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، وإنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله.
ففرح- رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد..
ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله- تعالى- قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم.
قال ابن إسحاق: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر فسارا حتى وقفا على شيخ من العرب. فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم، فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك.
قال: أذاك بذاك؟ قال: نعم، قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرنى، فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به المسلمون.
وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرنى صدقنى، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه قريش.
فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن من ماء، ثم انصرف عنه.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فلما أمسى أرسل بعضهم إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له.. فأصابوا ساقيين لقريش فأتوا بهما.. فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم أخبرانى عن قريش.
قالا: هم والله وراء الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى.
فقال لهما: كم القوم؟ قالا كثير قال: ما عددهم؟ قالا لا ندري قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوما تسعا ويوما عشرا. فقال: القوم فيما بين التسعمائة والألف ثم قال لهما.
فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأمية بن خلف.. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها..
قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا. فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر، فنقيم عليه ثلاثة، ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها.
وقال الأخنس بن شريق لبنى زهرة، يا بنى زهرة قد نجى الله لكم أموالكم فارجعوا فرجعوا فلم يشهد غزوة بدر زهري واحد.
ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي: وبعث الله السماء بالماء فأصاب المسلمون منه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشا منه ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء ماء نزل به..
فقال الحباب بن المنذر يا رسول الله؟ أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والمكيدة والحرب؟.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأى والمكيدة والحرب.
فقال الحباب يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم فنزله، ثم نغور ما وراءه من القلب- أى: ثم نغطى ما خلفه من الآبار- ثم نبنى عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد أشرت بالرأى» ثم نهض ومعه الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملىء ماء. ثم قال سعد بن معاذ يا رسول الله، ألا نبنى لك عريشا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا. كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا. فقد تخلف عنك أقوام- يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك.
فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير، ثم بنى لرسول الله عريش فكان فيه.
ثم ارتحلت قريش حين أصبحت، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمة من الكثيب إلى الوادي قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم أحثهم الغداة» .
ثم أرسلت قريش عمير بن وهب الجمحي فقالوا له: احزر لنا أصحاب محمد، فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال: هم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا..
ولقد رأيت- يا معشر قريش- البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع.
قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم. والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، فهل لك إلى أن تفعل شيئا تذكر به بخير إلى آخر الدهر؟ فقال عتبة: وما ذاك يا حكيم؟
قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي ...
قال عتبة: قد فعلت.. ثم قام عتبة خطيبا في الناس فقال:
يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه. قتل ابن عمه أو ابن خاله.. فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون..
وبلغ كلام عتبة أبا جهل فسبه.. ثم بعث أبو جهل إلى ابن الحضرمي فقال له: هذا حليفك عتبة يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثارك بعينك، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك- أى: فقم فاطلب من الناس الوفاء بالعهد والأخذ بثأر أخيك..
فقام ابن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: وا عمراه، وا عمراه، فحميت الحرب، واشتد أمر الناس، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد أبو جهل الرأى الذي دعا عتبة الناس إليه..
قال ابن إسحاق: ثم خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي- وكان شرسا سيئ الخلق- فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه فلما دنا منه خرج إليه حمزة بن عبد المطلب. فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه- أى.
أطارها- وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه. ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، فضربه حمزة حتى قتله في الحوض..
ثم خرج عتبة بين أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة.. فنادى يا محمد: أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قم يا عبيدة وقم يا حمزة وقم يا على.. أما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما على فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه- أى: جرحه جرحا شديدا لا يملك معه الحركة- وكر حمزة وعلى بأسيافهما على عتبة فأجهزا عليه، واحتملا عبيدة فحازاه إلى أصحابه.
قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس، ودنا بعضهم من بعض، وقد أمر رسول الله الناس أن لا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: «إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل» ...
ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف، ورجع إلى العريش فدخله- ومعه أبو بكر الصديق.. وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ويقول فيما يقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، وأبو بكر يقول: يا رسول الله بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك» .
ثم خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش، ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله. هذا جبريل آخذ بعنان فرس.. يقوده على ثناياه النقع» - أى الغبار.
وكان قد رمى مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، فكان أول قتيل.. من المسلمين.
ثم رمى حارثة بن سراقة وهو يشرب من الحوض بسهم فقتل.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم وقال: «والذي نفس محمد بيده.
لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة» ...
ثم إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل قريشا بها، ثم نفخهم بها وأمر أصحابه فقال: «شدوا» فكانت الهزيمة فقتل الله- تعالى- من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم..
فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحا السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله يخافون عليه كرة العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم!» .
فقال سعد: أجل والله يا رسول الله؟ كانت هذه أول موقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال..
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يومئذ: «إنى قد عرفت أن رجالا من بنى هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، ولا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقى منكم أحدا من بنى هاشم فلا يقتله ومن لقى أبا البحتري فلا يقتله..
قال ابن إسحاق: - وبعد انتهاء المعركة- أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى من المشركين أن يطرحوا في القليب فلما طرحوا وقف عليهم فقال: «بئس العشيرة كنتم لنبيكم- يا أهل القليب- لقد كذبتموني وصدقنى الناس، وأخرجتموني وآوانى الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس» ..
ثم قال: «هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإنى قد وجدت ما وعدني ربي حقا» فقال المسلمون: يا رسول الله! أتنادي قوما قد جيّفوا؟
فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني» .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع، فاختلف فيه المسلمون، فقال من جمعه: هو لنا، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو..: والله لولا نحن ما أصبتموه..
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشر أهل المدينة بنصر الله لهم على المشركين.
ثم فرق الرسول صلى الله عليه وسلم الأسرى من المشركين بين أصحابه وقال لهم:
«استوصوا بالأسارى خيرا» .
قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي فقالوا له: ما وراءك؟ فقال، قتل عتبة، وشيبة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف..
فلما جعل يعدد أشراف قريش الذين قتلوا، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا فاسألوه عنى!! فقالوا له: ما فعل صفوان بن أمية؟ فقال: ها هو ذاك في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا..
ولما قدم أبو سفيان بن الحارث قال له أبو لهب: هلم إلى، فعندك لعمري الخبر!! فجلس إليه الناس قيام عليه فقال له أبو لهب: يا ابن أخى أخبرنى كيف كان أمر الناس؟
فقال أبو سفيان: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا..
أما بعد: فهذا ملخص لغزوة بدر سقناه قبل البدء في التفسير التحليلى لسورة الأنفال، وقصدنا من ذكر هذا الملخص لهذه الغزوة الحاسمة: أن نتنسم الجو الذي نزلت فيه السورة- كما سبق أن أشرنا وأن نستعين به على فهم الآيات فهما واضحا مستنيرا..
لأن سورة الأنفال هي سورة بدر كما سماها ابن عباس- رضى الله عنه- وفي ختام هذا التعريف بسورة الأنفال، نسأل الله- تعالى- أن يوفقنا لتفسير آياتها تفسيرا واضحا مقبولا، بعيدا عن الانحراف. محررا من لغو القول وباطله..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
لعل من الخير قبل أن نتكلم فى تفسير هذه الآيات الكريمة أن نذكر بعض الروايات التى وردت فى سبب نزولها . فإن معرفة سبب النزول يعين على الفهم السليم .
قال الإِمام ابن كثير - ما ملخصه - روى الإِمام أحمد بن عبادة بن الصامت قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشهدت معه بدرا فالتقى الناس . فهزم الله - تعالى - العدو ، فانطلقت طائفة فى آثام يهزمون ويقتلون . وأقبلت طائفة على العسكر يجوزونه ويجمعونه . وأحدثت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكى لا يصيب العدو منه غرة . حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها ، فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا فى طلب العدو : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم . وقال الذين أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لستم أحق بها منا . نحن أحدقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم مخافة أن صيب منه غرة فاشتغلنا به - فنزلت : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول ) . . فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين .
وروى أبو داود والنسائى وابن جرير وابن مردويه - واللفظ له - عن ابن عباس قال : " لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا ، فتسارع فى ذلك شبان القوم ، وبقى الشيوخ تحت الرايات . فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذى جعل لهم . فقال الشيوخ : لا تسأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم ، لو انكشفتم لبثتم إينا . فتنازعوا ، فأنزل الله - تعالى - : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول ) " .
وقال الثورى ، عن الكلبى ، عن أبى صالح عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " " من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا " ، فجاء أبو اليسر بأسيرين ، فقال : يا رسول الله صلى الله عليك - أنت وعدتنا . فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ، إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شئ ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة فى الأجر ولا جبن عن العدو ، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك . فتشاجروا ، ونزل القرآن : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول ) " .
وقال الإِمام أحمد : حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن عن سليمان بن موسى عن مكحول عن أبى أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا فى النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدنا وجعله إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقسمه بين المسلمين عن بواء - أى : على السواء .
هذه بعض الروايات التى وردت فى سبب نزول هذه الآيات ، ومنها يتبين لنا أن نزاعاً حدث بين بعض الصحابة الذين اشتركوا فى غزوة بدر ، حول الغنائم التى ظفروا بها من هذه الغزوة ، فأنزل الله - تعالى - فى هذه الآيات بيان حكمه فيها .
والضمير فى قوله ( يَسْأَلُونَكَ ) يعود إلى بعض الصحابة الذين اشتركوا فى غزوة بدر ، وصح عود الضمير إليهم مع أنهم لم يسبق لهم ذكر ، لأن السورة نزلت فى هذه الغزوة ، ولأن هؤلاء الذين اشتركوا فيها هم الذين يهمهم حكمها ، ويعنيهم العلم بكيفية قسمتها .
قال الإِمام الرازى - ما ملخصه - : فإن قيل من هم الذين سألوا؟ فالجواب : إن قوله ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال ) إخبار عمن لم يسبق ذكرهم ، وحسن ذلك ههنا ، لأنه فى حالة النزول كان السائل عن هذا السؤال معلوماً فانصرف اللفظ إليهم . ولا شك أنهم كانوا أقواماً لهم تعلق بالغنائم والأنفال ، وهم أقوام من الصحابة اشتركوا فى غزوة بدر .
والأنفال جمع نفل - بفتح النون والفاء - كسبب وأسباب - وهو فى أصل اللغة من النفل - بفتح فسكون - أى : الزيادة ، ولذا قيل للتطوع نافلة ، لأنه زيادة عن الأصل وهو الفرض وقيل لولد الولد نافلة ، لأنه زيادة على الولد . قال - تعالى - : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ) قال الآلوسى : ثم صار النفل حقيقة فى العطية ، لأنها لكونها تبرعاً غير لازم كان زيادة ، ويسمى به الغنيمة أيضا وما يشترطه الإِمام للغازى زيادة على سهمه لرأى يراه سواء أكان لشخص معين أو لغير معين ، وجعلوا من ذلك ما يزيده الإِمام لمن صدر منه اثر محمود فى الحرب كبراز وحسن إقدام ، وغيرهما .
وإطلاقه على الغنيمة ، باعتبار أنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله ، أو باعتبار أنها زيادة خص الله بها هذه الأمة ، أو باعتبار أنها منحة من الله - تعالى - من غير وجوب .
ثم قال : ومن الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص . فقيل : الغنيمة ما حصل مستغنماً سواء أكان بتعب أو بغير تعب ، قبل الظفر أو بعده ، والنفل ما كان قبل الظفر ، أو ما كان بغير قتال وهو " الفئ " .
والمراد بالأنفال هنا الغنائم كما ورى عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، وطائفة من الصحابة وغيرهم .
هذا ، وجمهور العلماء على أن المقصود من سؤال بعض الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأنفال - أى الغنائم - إنما هو حكمها وعن المستحق لها ، فيكون المعنى :
يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم؟ ومن المستحق لها؟ قل لهم : الأنفال يحكم فيها بحكمه - سبحانه - وللرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو الذى يقسمها على حسب حكم الله وأمره فيها .
وفى هذه الإِجابة على سؤالهم تريبة حكيمة لهم - وهم فى أول لقاء لهم مع أعداءهم حتى يجعلوا جهادهم من أجل إعلاء كملة الله . أما الغنائم والأسلوب وأعراض الدنيا التى تأتيهم من وراء جهاده فعليهم ألا يجعلوها ضمن غايتهم السامية من جهادهم ، وأن يفوضوا الأمر فيها لله ورسوله عن إذعان وتسليم .
وبعض العلماء يرى أن السؤال للاستعطاء ، وأن المراد بالأنفعال ما شرط للغازى زيادة على سهمه ، وأن حرف " عن " زائدة ، أو هو بمعنى من ، فيكون المعنى : يسألك بعض أصحابك يا محمد إعطاءهم الأنفعال التى وعدتهم بها زايدة على سهامهم فيها . قل لهم : الأنفال لله ولرسوله .
والذى نراه أن الرأى الأول أرجح وذلك لأمور منها :
1- بعض الروايات التى وردت فى أسباب نزول هذه الآية تؤيده تأييداً صريحاً ، ومن ذلك ما سبق أن ذكرناه عن عبادة بن الصامت أنه قال : " فينا معشر أصحاب بدر نزلت ، حين اختلفنا فى النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا . فجعله إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين عن بواء " .
2- ولأن غزوة بدر كانت أول غزوة لها شأنها وأثرها بين المسلمين والكافرين ، وكانت غنائهما الضخمة التى ظفر بها المؤمنون من المشركين ، حافزاً لسؤال بعض المؤمنين رسولهم - صلى الله عليه وسلم -عن حكمها وعن المستحق لها .
3- ولأن الجواب عن السؤال بقوله - تعالى - : ( قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول ) يؤيد أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال وعن مصرفها ، إذ أن هذا الجواب يفيد أن اختصاص أمرها وحكمها مرجعه إلى الله ورسوله دون تدخل أحد سواهما .
ولو كان السؤال للاستعطاء لما كان هذا جواباً له ، فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالله والرسول لا ينافى إعطاءه إياهم بل يحققه ، لأنهم إنما يسألونه بموجب شطره لهم الصادر عنه بإذن الله - تعالى - لا بحكم سبق أيديهم إليهم أو نحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور .
4- ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك ( فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ . . ) إلخ يؤيد أن السؤال عن حكم الأنفال ومصرفها بعد أن تنازعوا فى شأنها ، فهو - سبحانه - ينهاهم عن هذا التنازع ، وبأمرهم بأن يصونوا أنفهسم عن كل ما يغضب الله . . . ولو كان السؤال للاستعطاء - بناء على ما شرطه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبعض زيادة على سهامهم - لما كان هناك محذور يجب اتقاؤه ، لأنهم لم يطلبوا من الرسول إلا ما