الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 26 من سورة الأنفال
وبعد أن أمر- سبحانه- المؤمنين بالاستجابة له ونهاهم عن الوقوع في المعاصي.. أخذ في تذكيرهم بجانب من فضله عليهم فقال: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ....
أى: اذْكُرُوا يا معشر المؤمنين إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ أى: وقت أن كنتم قلة مستضعفة في أرض مكة تحت أيدى كفار قريش. أو في أرض الجزيرة العربية حيث كانت الدولة لغيركم من الفرس والروم.
وقوله: تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ أى: تخافون أن يأخذكم أعداؤكم أخذا سريعا. لقوتهم وضعفكم. يقال خطفه- من باب تعب- أى: استلبه بسرعة.
والمراد بالتذكر في قوله: اذْكُرُوا أن يتنبهوا بعقولهم وقلوبهم إلى نعم الله، وأن يداوموا على شكرها حتى يزيدهم- سبحانه- من فضله.
وإِذْ ظرف بمعنى وقت. وأَنْتُمْ مبتدأ، أخبر عنه بثلاثة أخبار بعده وهي قَلِيلٌ ومُسْتَضْعَفُونَ وتَخافُونَ.
والمراد بالناس: كفار قريش، أوهم وغيرهم من كفار العرب والفرس والروم.
وقوله: فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ بيان لما من به عليهم من نعم بعد أن كانوا محرومين منها.
أى: اذكروا وقت أن كنتم قلة ضعيفة مستضعفة تخشى- أن يأخذها أعداؤها أخذا سريعا، فرفع الله عنكم بفضله هذه الحال، وأبدلكم خيرا منها، بأن آواكم إلى المدينة، وألف بين قلوبكم يا معشر المهاجرين والأنصار وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ في غزوة بدر، وقذف في قلوب أعدائكم الرعب منكم وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أى: ورزقكم من الغنائم التي أحلها لكم بعد أن كانت محرمة على الذين من قبلكم، كما رزقكم- أيضا بكثير من المطاعم والمشارب الطيبة التي لم تكن متوفرة لكم قبل ذلك.
وقوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تذييل قصد به حضهم على مداومة الشكر والطاعة لله- عز وجل- أى: نقلكم الله- تعالى- من الشدة إلى الرخاء، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الفقر إلى الغنى.. حتى تستمروا على طاعة الله وشكره، ولا يشغلكم عن ذلك أى شاغل.
قال ابن جرير: قال قتادة في قوله- تعالى- وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ..:
«كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا، وأبينه ضلالا، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردى في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منهم منزلا، حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس. فبالاسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله- تعالى-» .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الثلاثة قد جمعت بين الترغيب والترهيب والتذكير ... الترغيب
كما في قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ....
والترهيب كما في قوله- تعالى-: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً....
والتذكير كما في قوله- تعالى- وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ....
وبالترغيب في الطاعات، وبالترهيب من المعاصي، وبالتذكير بالنعم، ينجح الدعاة في دعوتهم إلى الله.
ثم وجه- سبحانه- بعد ذلك نداء رابعا وخامسا إلى المؤمنين فقال: