الوسيط للطنطاوي

تفسير الآية رقم 42 من سورة الأنفال

قوله: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا.. بدل من قوله يَوْمَ الْفُرْقانِ.. أو معمول لفعل محذوف. والتقدير: اذكروا.
والعدوة- مثلثة العين- جانب الوادي وحافته. وهي من العدو بمعنى التجاوز سميت بذلك لأنها عدت..- أى منعت- ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوزها.
والدنيا: تأنيث الأدنى بمعنى الأقرب. والقصوى: تأنيث الأقصى بمعنى الأبعد. والركب:
اسم جمع لراكب، وهم العشرة فصاعدا من راكبي الإبل.
قال القرطبي: ولا تقول العرب: ركب إلا للجماعة الراكبى الإبل..
والمراد بهذا الركب: أبو سفيان ومن معه من رجال قريش الذين كانوا قادمين بتجارتهم من بلاد الشام ومتجهين بها إلى مكة، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أمرها، أشار على أصحابه بالخروج لملاقاته، كما سبق أن بينا عند تفسيرنا لقوله- تعالى- كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ...
والمعنى: اذكروا- أيها المؤمنون- وقت أن خرجتم إلى بدر، فسرتم إلى أن كنتم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا أى: بجانب الوادي وحافته الأقرب إلى المدينة، وكان أعداؤكم الذين قدموا لنجدة العير بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أى: بالجانب الآخر الأبعد من المدينة، وكان أبو سفيان ومن معه من حراس العير أَسْفَلَ مِنْكُمْ أى: في مكان أسفل من المكان الذي أنتم فيه، بالقرب من ساحل البحر الأحمر، على بعد ثلاثة أميال منكم.
قال الجمل: قوله وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ الأحسن في هذه الواو، والواو التي قبلها الداخلة على هُمْ أن تكون عاطفة ما بعدها على أَنْتُمْ لأنها مبدأ تقسيم أحوالهم وأحوال عدوهم ويجوز أن يكونا واو حال، وأسفل منصوب على الظرف النائب عن الخبر، وهو في الحقيقة صفة لظرف مكان محذوف. أى: والركب في مكان أسفل من مكانكم وكان الركب على ثلاثة أميال من بدر..»
وقال الإمام الزمخشري- رحمه الله- فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين، وأن العير كانت أسفل منهم؟.
قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة الشأن للعدو، وتكامل عدته، وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين، والتياث أمرهم، وأن غلبتهم في هذه الحال ليس إلا صنعا من الله- سبحانه- ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرته.
وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون، كان فيها الماء، وكانت أرضا لا بأس بها. ولا ماء بالعدوة الدنيا، وهي خبار- أى أرض لينة رخوة- تسوخ فيها الأرجل، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة.
وكانت العير وراء ظهور العدو، مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم، ليبعثهم الذب عن الحريم على بذل جهودهم في القتال.
وفيه تصوير ما دبر- سبحانه- من أمر غزوة بدر لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا ومن إعزاز دينه، وإعلاء كلمته، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج، وأقلق قريشا ما بلغهم من تعرض المسلمين لأموالهم، فنفروا ليمنعوا عيرهم، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى، ووراءهم العير يحامون عليها، حتى قامت الحرب في ساق، وكان ما كان» .
وقوله: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا بيان لتدبير الله الحكيم، وإرادته النافذة.
أى: ولو تواعدتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال، لتخلفتم عن الميعاد المضروب بينكم، لأن كل فريق منكم كان سيتهيب الإقدام على صاحبه، ولكن الله- تعالى- بتدبيره الخفى شاء أن يجمعكم للقتال على غير ميعاد، ليقضى- سبحانه- أمرا كان مفعولا، أى:
ثابتا في علمه وحكمته، وهو: إعزاز الإسلام وأهله، وخذلان الشرك وحزبه.
روى ابن جرير من حديث كعب بن مالك- رضى الله عنه- قال: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
وروى- أيضا- عن عمير بن إسحاق قال: أقبل أبو سفيان في الكرب من الشام، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فالتقوا ببدر، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء، ولا هؤلاء بهؤلاء، حتى التقى السقاة قال: ونظر الناس بعضهم إلى بعض»
وقوله لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ بدل من قوله لِيَقْضِيَ بإعادة الحروف، أو هو متعلق بقوله مَفْعُولًا.
والمراد بالهلاك والحياة هنا ما يشمل الحسى والمعنوي منهما.
والمراد بالبينة الحجة الظاهرة الدالة على حقية الإسلام وبطلان الكفر.
قال الآلوسى: أى: ليموت من يموت عن حجة عاينها، ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها، فلا يبقى محل للتعلل بالأعذار، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة والحجج الغر المحجّلة.
ويجوز أن يراد بالحياة: الإيمان، وبالموت: الكفر على سبيل الاستعارة أو المجاز المرسل بأن يراد بالبينة: إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدامغة.
أى: ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح وبينة وإلى هذا ذهب قتادة وابن إسحاق. والظاهر أن عَنْ هنا بمعنى بعد كقوله- تعالى- عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر ويعقوب حيي على وزن تعب- بفك الإدغام.
وقرأ الباقون بإدغام الياء الأولى في الثانية على وزن شد ومد .
وقوله وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ تذييل قصد به الترغيب في الإيمان- والترهيب من الكفر، أى: وإن الله لسميع لأقوال أهل الإيمان والكفر عليم بما تنطوى عليه قلوبهم وضمائرهم، وسيجازى- سبحانه- كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب على حساب ما يعلم وما يسمع منه.