الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 16 من سورة التوبة
و «أم» هنا للاستفهام الإنكارى. وحسب- كما يقول الراغب- مصدره الحسبان وهو أن يحكم الشخص لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله، فيحسبه ويعقد عليه الأصابع، ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك. ويقارب ذلك الظن، لكن الظن أن يخطر النقيضان بباله فيغلب أحدهما على الآخر .
والواو في قوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ ... حالية، ولَمَّا للنفي مع توقع الحصول، ونفى العلم هنا مجاز عن نفى التبيين والإظهار والتمييز.
وقوله: وَلِيجَةً أى، بطانة ومداخلة. من الولوج في الشيء أى الدخول فيه.
يقال: ولج يلج ولوجا إذا دخل. وكل شيء أدخلته في شيء ولم يكن منه فهو وليجة.
والمراد بالوليجة هنا: البطانة من المشركين الذين يطلعون على أسرار المؤمنين ويداخلونهم في أمورهم.
قال ابن جرير: قوله: وَلِيجَةً هو الشيء يدخل في آخر غيره. يقال منه: ولج فلان في كذا يلجه فهو وليجة. وإنما عنى بها في هذا الموضع: البطانة من المشركين، نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوهم من المشركين أولياء يفشون إليهم أسرارهم .
والمعنى: أحسبتم- أيها المؤمنون- أن تتركوا دون أن تؤمروا بقتال المشركين، والحال أن الله- تعالى- لم يظهر الذين جاهدوا منكم بإخلاص ولم يتخذوا بطانة من أعدائكم.. ممن جاهدوا منكم بدون إخلاص؟
لا. أيها المؤمنون، إن كنتم حسبتم ذلك فهو حسبان باطل، لأن سنة الله قد اقتضت أن يميز المخلص في جهاده من غيره، وأن يجعل من حكم مشروعية الجهاد الامتحان والتمحيص.
قال ابن كثير: والحاصل أنه- تعالى- لما شرع الجهاد لعباده، بين أن له فيه حكمة وهو اختبار عبيده من يطيعه ممن يعصيه، وهو- تعالى- العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فيعلم الشيء قبل كونه ومع كونه على ما هو عليه، لا إله إلا هو ولا رب سواه، ولا راد لما قدره وأمضاه» .
وقوله تعالى. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ بيان لشمول علمه- سبحانه لجميع شئون خلقه.
أى: والله- تعالى- خبير بجميع أعمالكم، مطلع على نياتكم، فأخلصوا له العمل والطاعة، لتنالوا ثوابه ورضاه وعونه.
وبذلك نرى السورة الكريمة من أولها إلى هنا قد أعلنت براءة الله ورسوله من عهود المشركين، وأعطتهم مهلة يتدبرون خلالها أمرهم، وأمرت المؤمنين بعد هذه المهلة- أن يقتلوا المشركين حيث وجدوهم.. ثم ساقت الأسباب التي تدعو إلى مجاهدتهم، والفوائد التي تترتب على هذه المجاهدة، والحكم التي من أجلها شرعت هذه المجاهدة.
ثم أخذت السورة بعد ذلك في إعلان حكم آخر يتعلق بتعمير مساجد الله، فبينت أنه يحرم على المشركين أن يعمروا مساجد الله، وأن المستحقين لذلك هم المؤمنون الصادقون، فقال- تعالى-: