الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 11 من سورة البلد
وبعد بيان هذه النعم الجليلة التي أنعم الله بها- سبحانه- على الإنسان، أتبع- سبحانه- ذلك بحضه على المداومة على فعل الخير، وعلى إصلاح نفسه، فقال- تعالى-: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ.
والفاء في قوله- سبحانه-: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ للتفريع على ما تقدم، والمقصود بهذه الآية الحض على فعل الخير بدل الشر.
وقوله: اقْتَحَمَ من الاقتحام للشيء، بمعنى دخوله بشدة. يقال: اقتحم الجنود أرض العدو، إذا دخلوها بقوة وسرعة، وبدون مبالاة بارتكاب المخاطر.
والعقبة في الأصل: الطريق الوعر في الجبل، والمراد بها هنا: مجاهدة النفس، وقسرها على مخالفة هواها وشهوتها، وحملها على القول والفعل الذي يرضى الله تعالى-.
والمعنى: لقد جعلنا للإنسان عينين ولسانا وشفتين. وهديناه النجدين. فهلا بعد كل هذه النعم، فعل ما يرضينا، بأن جاهد نفسه وهواه، وبأن قدم ماله في فك الرقاب، وإطعام اليتامى والمساكين.
قال الجمل: وقوله: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أى: فهلا اقتحم العقبة، فلا بمعنى هلا التي للتحضيض. أى: الذي أنفق ماله في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم هلا أنفقه في اقتحام العقبة فيأمن.. .
وقد استعيرت العقبة لمجاهدة النفس، وحملها على الإنفاق في سبيل الخير، لأن هذه الأعمال شاقة على النفس، فجعلت كالذي يتكلف سلوك طريق وعر..
ويصح أن تكون «لا» هنا، على معناها الحقيقي وهو النفي، فيكون المعنى: أن هذا الإنسان الذي جعلنا له عينين.. لم يشكرنا على نعمنا، فلا هو اقتحم العقبة، ولا هو فعل شيئا ينجيه من عذابنا.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: قوله: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ يعنى: فلم يشكر تلك الأيادى والنعم بالأعمال الصالحة: من فك الرقاب، وإطعام اليتامى والمساكين..
بل غمط النعم، وكفر بالمنعم..
فإن قلت: قلما تقع «لا» الداخلة على الماضي، غير مكررة، فما لها لم تكرر في الكلام الأفصح؟. قلت: هي متكررة في المعنى، لأن المعنى فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ.. فلا فكّ رقبة، ولا أطعم مسكينا. ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك.. .