الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 102 من سورة البقرة
ثم حكى- سبحانه- لونا آخر من زيغهم وضلالهم واتباعهم للأباطيل بعد أن وبخهم علىنبذهم لكتابه فقال تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ.
اتبعوا: من الاتباع وهو الاقتداء، والضمير فيه يعود على اليهود المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وتتلو: من التلاوة بمعنى الاتباع أو القراءة، وقال الراغب: تلا عليه كذب عليه.
والشياطين: جمع شيطان، وهو كائن حي خلق من النار، ويطلق على الممتلئ شرا من الأنس.
والمعنى: إن هؤلاء اليهود نبذوا كتاب الله، واتبعوا الذي كانت تتلوه وتقصه الشياطين على عهد ملك سليمان، وفي زمانه، من الأكاذيب والكفر ومن ذلك زعمهم أن ملكه قام على أساس السحر، وأنه ارتد في أواخر حياته، وعبد الأصنام إرضاء لنسائه الوثنيات إلى غير ذلك من الأكاذيب التي ألصقوها به- عليه السلام- وهو برىء منها.
قال صاحب الكشاف: وقوله تعالى: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أى على عهد ملكه وفي زمانه، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة، وقد دونوها في كتب يقرءونها ويعلمونها للناس، وفشا ذلك في زمان سليمان- عليه السلام- حتى قالوا: إن الجن تعلم الغيب، وكانوا يقولون: ما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه يسخر الإنس والجن والريح التي تجرى بأمره «1» .
وقوله تعالى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا معناه: وما كفر سليمان ولكن الشياطين هم الذين كفروا إذ تعلموا السحر وعلموه لغيرهم بقصد إضلالهم، وصرفهم عن عبادة- الله- تعالى- إلى عبادة غيره من المخلوقات.
ففي الجملة الكريمة تنزيه لسليمان- عليه السلام- عن الردة والشرك وتبرئة له من عمل السحر الذي كان يتعاطاه أولئك الشياطين وينسبونه إليه زورا وبهتانا، ودلالة على أن ذلك السحر الذي نسبوه إليه وباشرته الشياطين نوع من الكفر.
وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان، وأنه ارتد في آخر عمره، وعبد الأصنام وبنى لها المعابد، وكانوا عند ما يذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم سليمان بين الأنبياء يقولون: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنما كان ساحرا يركب الريح.
فإن قال قائل: ما الحكمة في نفى الكفر عن سليمان مع أن صدر الآية لا يفيد أن أحدا نسب إليه ذلك.
فالجواب: أن اليهود الذين نبذوا كتاب الله، واتبعوا ما تلته الشياطين من السحر أضافوا هذا السحر إلى سليمان، وقالوا إنه كان يسخر به الجن والإنس والريح، فأكذبهم الله- تعالى- بقوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا كما بينا.
والضمير في قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ يعود على الشياطين الذين افتروا الأكاذيب على سليمان- عليه السلام-.
ويجوز أن يعود على اليهود الذين نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تلته الشياطين على سليمان.
قال الأستاذ الإمام: في قوله تعالى يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ: وجهان:
أحدهما: أنه متصل بقوله تعالى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا أى: أن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر.
والثاني: وهو الأظهر أنه متصل بالكلام عن اليهود وأن الكلام في الشياطين قد انتهى عند قوله تعالى كَفَرُوا وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهورا في زمن التنزيل ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم، أى أن فريقا من اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وهاهنا يقول القائل: بماذا اتبعوا أولئك الشياطين الذين كذبوا على سليمان في رميه بالكفر وزعمهم أن السحر استخرج من كتبه التي كانت تحت كرسيه؟ فأجاب على طريق الاستئناف البياني يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.
ونفى الكفر عن سليمان والصاقه بالشياطين الكاذبين ذكر بطريق الاعتراض، فعلم- أيضا- أنهم اتبعوا الشياطين بهذه الفرية، وإنما كان القصد إلى وصف اليهود بتعلم السحر، لأنه من السيئات التي كانوا متلبسين بها، ويضرون بها الناس خداعا وتمويها وتلبسا .
وإنما أضاف الله- تعالى- إلى اليهود أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان خاصة مع أنه كان معروفا قبل سليمان- عليه السلام- كما أخبر به القرآن عن سحرة فرعون، وإنما أضاف ذلك إليهم، لأن هذا كان هو الواقع منهم، ولأن سحر هؤلاء الشياطين الذين كانوا على عهد سليمان، كان مدونا في صحف اليهود من قديم، وتوارثه خلفهم عن سلفهم إلى أن وصل إلى من عاصر النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم ولأن سليمان- عليه السلام- أعطاه الله تعالى ملكا واسعا، وسخر له الإنس والجن والريح، فعزت الشياطين ذلك كله إلى تعلمه السحر.
وما في قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ موصولة، وهي معطوفة على السحر في قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ أى يعلمون الناس السحر، ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين.
والذي أنزل عليهما هو وصف السحر وماهيته وكيفية الاحتيال به. ليعرفاه الناس فيجتنبوه، على حد قول الشاعر:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ... ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه.
فالشياطين عرفوه فعملوا به، وعلموه للناس ليستعملوه في الشرور والمآثم بينما المؤمنون عرفوه واستفادوا من الاطلاع عليه فتجنبوه .
هذا، واختصت بابل بالإنزال، لأنها كانت أكثر البلاد عملا بالسحر، وكان سحرتها قد اتخذوا السحر وسيلة لتسخير العامة لهم في أبدانهم وعقولهم وأموالهم، ثم جروهم إلى عبادة الأصنام والكواكب فحدث فساد عظيم، وعمت الأباطيل فألهم الله- تعالى- هاروت وماروت أن يكشفا للناس حقيقة السحر ودقائقه، حتى يعلموا أن السحرة الذين صرفوهم عن عبادة الله إلى عبادة الكواكب وغيرها قد خدعوهم وأضلوهم، وبذلك يعودون إلى الصراط المستقيم.
واللام في الْمَلَكَيْنِ مفتوحة في القراءات العشر المتواترة، وقرئ شاذا الْمَلَكَيْنِ بكسر اللام.
قال بعض المفسرين: المراد بالملكين- بفتح اللام- رجلان صالحان اطلعا على أسرار السحر التي كانت تفعلها السحرة، فعلماها للناس ليحذراهم من الانقياد لتلبيسات الشياطين، وسميا ملكين مع أنهما من البشر لصلاحهما وتقواهما، ويؤيد هذا الرأى قراءة الملكين- بكسر اللام- وإن كانت شاذة:
وقال جمهور المفسرين: إنهما ملكان على الحقيقة أنزلهما الله- تعالى- ليعلما الناس السحر ابتلاء لهم، ليفضحا مزاعم السحرة الذين كانوا يدعون النبوة كذبا، ويسخرون العامة لهم ويخرجونهم إلى عبادة غير الله، (وهاروت وماروت) اسمان للملكين الذين أنزل عليهما السحر، وهما بدل أو عطف بيان للملكين.
وقوله تعالى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ بيان لما كان ينصح به الملكان من يريد تعلم السحر منهما. والجملة حالية من هاروت وماروت.
والفتنة، المراد بها هنا الابتلاء والاختبار، تقول: فتنت الذهب في النار، أى: اختبرته لتعرف جودته ورداءته.
والمعنى: أن الملكين لا يعلمان أحدا من الناس السحر إلا وينصحانه بقولهما إن ما نعلمك إياه من فنون السحر الغرض منه الايتلاء والاختبار لتمييز المطيع من المعاصي. فمن عمل به ضل وغوى، ومن تركه فهو على هدى ونور من الله، ولإظهار الفرق بين المعجزة والسحر.
فحذار أن تستعمل ما تعلمته فيما نهيت عنه فتكون من الكافرين. كما كفر السحرة بنسبتهم التأثيرات إلى الكواكب وغيرها من المخلوقات.
فالمقصود من تعليم الملكين للناس السحر، فضح أمر السحرة الذين كثروا في تلك الأيام، وادعوا ما لم يأذن به الله، وإظهار الفرق بين المعجزة والسحر حتى يعلم الناس أن هؤلاء السحرة الذين قد يزعمون بمرور الأيام أنهم أنبياء ليسوا كذلك، وإنما هم أفاكون، وأخبروا على أنفسهم بطريق القصر بأنهم فتنة للمبالغة في الإقرار بأنهما لا يملكان نفعا ولا ضرا لأحد، وإنما هما فتنة محضة، وابتلاء من الله لعباده لتمييز المطيع من العاصي.
ثم بين- سبحانه- لونا من السحر البغيض الذي استعمله أولئك السحرة في الأذى فقال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ أى فيتعلم بعض الناس من الملكين ما يحصل به الفراق بين المرء وزوجه.
فالجملة الكريمة تفريع عما دل عليه قوله تعالى قبل ذلك: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ لأنه يقتضى أن التعليم حاصل، وأن بعض المتعلمين قد استعملوه في التفريق بين الزوجين.
وخصص سبحانه هذا اللون من السحر بالنص عليه للتنبيه على شدة فساده. وعلى شناعة ذنب من يقوم به. لأنه تسبب عنه التفريق بين الزوجين اللذين جمعت بينهما أواصر المودة والرحمة.
والضمير في قوله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ راجع لأحد، وصح عود ضمير الجمع عليه مع أنه مفرد، لوقوعه في سياق النفي، والنكرة إذا وردت بعد نفى كانت في معنى أفراد كثيرة، فصح أن يعود ضمير الجمع إليه كذلك.
ثم نفى- سبحانه- أن يكون السحر مؤثرا بذاته فقال تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
أى: أن أولئك السحرة لن يضروا أو ينفعوا أحدا بسحرهم إلا بإذن الله وقدرته، فالسحر سبب عادى لما ينشأ عنه من الاضرار ويجوز أن يتخلف عنه مسببه إذا أذن الله بذلك.
والجملة الكريمة معترضة لدفع توهم أن يكون السحر مضرا بذاته، بحيث لا يتخلف عنه الضرر متى تعاطاه الساحر.
والمراد بِإِذْنِ اللَّهِ هنا. تخليته- سبحانه- بين المسحور وضرر السحر، أى: إن شاء حصل الضرر بسبب السحر، وإن شاء منعه فلا يصيب المسحور منه شيء من الأذى.
وعبر- سبحانه- عن هذا المعنى بطريق القصر، مبالغة في نفى أى تأثير للسحر بذاته، وإغراء للناس بتكذيب ما يزعمه السحرة من أن لهم قوى غيبية سوى الأسباب التي ربط الله بها المسببات، وإرشادا لهم إلى حسن الاعتقاد، وسلامة اليقين.
ثم بين- سبحانه- أن أولئك المتعلمين السحر للأذى وللتفرقة بين المتحابين يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، فقال تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ أى: أن أولئك الذين تعلموا السحر ليضروا به غيرهم، ولم يتعلموه ليفرقوا به بين الحق والباطل، أو ليدفعوا به الشر عن أنفسهم، قد سلكوا بهذا التعليم الطريق الذي يضرهم ولا ينفعهم، وأصبحوا بذلك عاصين لما نصحهم به الملكان عند تعليم السحر.
وفي هذه الجملة الكريمة زيادة تنبيه على تفاهة عقول المشتغلين بالسحر للأذى ومبالغة في تجهيل المصدقين لهم، لأن الساحر- مهما بلغت براعته- فلن يستطيع أن يمنع شيئا أراده الله، ولا أن يأتى بشيء منعه الله مادام الأمر كذلك فالمشتغل به، والمصدق له كلاهما وقع في ضلال مبين.
وقد أفادت الجملة الكريمة بجمعها بين إثبات الضر ونفى النفع مفاد الحصر فكأنه- سبحانه- يقول: ويتعلمون ما ليس إلا ضررا بحتا.
ثم بين- سبحانه- مآل أولئك اليهود التاركين للحق، والمتبعين للباطل فقال تعالى:
وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أى: ولقد علم أولئك اليهود الذين نبذوا تعاليم كتابهم واتبعوا السحر، أن من استبدل السحر بكتاب الله ليس له من حظ في الجنة، لأنه قد اختار الضلال وترك الهدى، وعلمهم مرجعه إلى أن التوراة قد حرمت عليهم تعلم السحر أو تعليمه للأذى والضرر، وشددت العقوبة على مرتكبه، وعلى متبع الجن والشياطين والكهان.
فالضمير في عَلِمُوا يعود إلى أولئك اليهود الذي تركوا كتاب الله واستبدلوا به السحر.
والاشتراء هو اكتساب شيء ببذل غيره، والمراد أنهم اكتسبوا السحر الذي تتلوه الشياطين بعد أن بذلوا في سبيل ذلك إيمانهم ونصيبهم من الجنة، وغدوا مفلسين من حظوظ الآخرة، لإقبالهم على التمويه والكذب، واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير.
وأكد- سبحانه- علمهم بضرر السحر بقوله وَلَقَدْ عَلِمُوا للإشارة إلى أن اختيارهم للسحر لم ينشأ عن جهلهم بضرره، وإنما هم الذين اختاروه ومالوا إليه متعمدين وعالمين بعاقبته السيئة.
ثم قال تعالى: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
شروا: بمعنى باعوا، وبيع الأنفس هنا معناه بيع نصيبها من الجنة. ونعيمها.
والمعنى: ولبئس شيئا باع به أولئك السحرة حظوظ أنفسهم تعلم ما يضر من السحر والعمل به، ولو كانوا ممن ينتفعون بعلمهم لما فعلوا ذلك.
وأثبت لهم العلم في قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ثم نفاه عنهم في قوله تعالى:
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ جريا على الأسلوب المعروف في فنون البلاغة من أن العالم بالشيء إذا لم يعمل بموجب علمه نزل منزلة الجاهل ونفى عنه العلم كما ينفى عن الجاهلين.
وإلى هذا المعنى الذي قررناه أشار صاحب الكشاف بقوله.
فإن قلت كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ على سبيل التوكيد القسمي، ثم نفاه عنهم في قوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ؟
قلت: معناه لو كانوا يعملون بعلمهم. جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه .