الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 103 من سورة البقرة
ثم بين- سبحانه- المنافع التي تعود عليهم لو اتبعوا الحق، بعد أن بين الاضرار التي ترتبت على اتباعهم للباطل فقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أى: لو أن أولئك اليهود النابذين لكتاب الله المتبعين للأوهام والأباطيل، آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أو بالتوراة إيمانا حقا، واتقوا الله، فاجتنبوا ما يؤثمهم ومنه السحر والتمويه، لكانت لهم مثوبة «2» من عند الله، هي خير لهم من السحر وغيره، ولو كانوا من اولى العلم النافع لفهموا ذلك، واستبدلوا بالسحر الإيمان والتقوى، ولكنهم قوم لا يعقلون.
فقوله تعالى: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ جواب للو الشرطية، وأصل التركيب، لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم، فحذف الفعل، وغير السبك إلى ما عليه النظم الكريم، للدلالة على ثبوت المثوبة لهم والجزم بخيريتها.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف «1» بقوله: (فإن قلت: كيف أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب لو؟ قلت: لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها، كما عدل عن النصب إلى الرفع في سلام عليكم لذلك.
وقال الإمام الآلوسى: (المثوبة: اسم مصدر أثاب إذا أعطى الثواب، والثواب الجزاء الذي يعطى للغير. ولم يقل- سبحانه- لمثوبة الله مع أنه أخصر، ليشعر التنكير بالتقليل فيفيد أن شيئا قليلا من ثواب الله- تعالى- في الآخرة الدائمة، خير من متاع كثير في الدنيا الفانية، فكيف وثواب الله- تعالى- كثير دائم، وفيه من الترغيب والترهيب المناسبين للمقام ما لا يخفى «2» .
وقوله تعالى: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ شرط آخر محذوف الجواب لدلالة ما تقدم عليه، وحذف مفعول يُعَلِّمُونَ لدلالة لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ عليه. أى: لو كانوا يعلمون مثوبة الله لما اشتروا السحر بالإيمان.
وبذلك تكون الآيات الكريمة التي سقناها في هذا المبحث قد دمغت بنى إسرائيل بجحود الحق، ونبذهم لتعاليم كتابهم وإيثارهم عليها الأكاذيب والأباطيل، وسيرهم في طريق الشر عن تعمد وإصرار، وعدم عملهم بما يعلمون لانحراف طباعهم، وحماقة تفكيرهم وسوء تدبيرهم.
واستحواذ الشيطان عليهم.. فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ.
هذا، ويحسن بنا قبل أن نختم هذا البحث، أن نذكر كلمة موجزة عن السحر فنقول:
السحر: في أصل اللغة معناه: الصرف، ومنه قوله تعالى فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أى: فكيف تصرفون عن الحق إلى الباطل.
وقد ذكر السحر في القرآن والسنة، واتفق علماء المسلمين على أن هناك شيئا يسمى سحرا، إلا أنهم اختلفوا في تصويره.
فجمهور أهل السنة ذهب إلى أن للسحر آثارا حقيقية، وأن الساحر قد يأتى بأشياء غير عادية، إلا أن الفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله- تعالى- واستدلوا على ذلك بأدلة منها
أولا: أن الله- تعالى- قد أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم، أن يستعيذ به مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ وهم السحرة- على أرجح الأقوال.
قال الإمام ابن كثير: قوله تعالى وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك، يعنى السواحر قال مجاهد «إذا رقين ونفثن في العقد».
فالآية الكريمة تدل على أن للسحر آثارا حقيقة، وإلا لما أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يستعيذ من شرور السحرة.
ثانيا: قال الإمام البخاري: - في باب هل يستخرج السحر-: حدثني عبد الله بن محمد، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: أول من حدثنا به ابن جريج يقول: حدثني آل عروة عن عروة، فسألت هشاما عنه فحدثنا عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سحر حتى كان يرى أنه يأتى النساء ولا يأتيهن، قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذلك. فقال: «يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتانى فيما استفتيته فيه؟ أتانى رجلان فقعد أحدهما عند رأسى والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسى للآخر، ما بال الرجل: مطبوب، قال ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم- رجل من بنى زريق حليف اليهود كان منافقا- قال.
وفيم: قال: في مشط ومشاطه، قال: وأين؟ قال في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان. قالت: فأتى البئر حتى استخرجه، فقال: «هذه البئر التي أريتها وكأن نخلها رءوس الشياطين» قال فاستخرج- أى السحر- قالت: فقلت أفلا- أى- تنشرت؟ فقال: «إن الله قد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا» .
فهذا الحديث الصحيح يفيد أن السحر قد أثر في جسم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بنوع من المرض أو الثقل، دون أن يكون لذلك أدنى تأثير في عقله.
قال الإمام ابن القيم: هذا هو الحديث الذي رواه البخاري، وهو ثابت عند أهل العلم بالحديث لا يختلفون في صحته، وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيحه، ولم يتكلم فيه أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقه، وهؤلاء أعلم بأحوال الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأيامه .
وقال الإمام القرطبي «الأدلة متوفرة على أن للسحر حقيقة، فهو مقطوع به بإخبار الله- تعالى- ورسوله على وجوده ووقوعه، وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق، ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان، وتكلم الناس فيه، ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله.
وقال الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي. قال المازري: «مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة. خلافا لمن أنكر ذلك ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها. وقد ذكره الله- تعالى- في كتابه وذكر أنه مما يتعلم. وذكر فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به. وأنه يفرق بين المرء وزوجه. وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة له، وهذا الحديث أيضا مصرح بإثباته. وأنه أشياء دفنت وأخرجت ولا يستنكر في العقل أن الله- سبحانه- يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام، أو المزج بين قوى على ترتيب لا يعرفه إلا الساحر. قال: وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث لسبب آخر. فزعم أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع وهذا الذي ادعاه بعض المبتدعة باطل لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك. قال القاضي عياض: وقد جاءت روايات مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على قوله وقلبه واعتقاده، ويكون معنى قوله في الحديث: «حتى يظن أنه يأتى أهله ولا يأتيهن» أن يظهر من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن ولم يتمكن من ذلك كما يعترى المسحور «3» .
أما المعتزلة فقد ذهبوا إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تخييل وتمويه كما قال تعالى في سحرة فرعون فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فأخبر- سبحانه-أن ما ظنوه سعيا منها لم يكن سعيا على الحقيقة إنما كان تخييلا وتمويها. وقال تعالى في سحرة فرعون أيضا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أى فلما ألقوا عصيهم موهوا على الناس حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى، وأرهبوهم بما فعلوه، وجاءوا بسحر عظيم في فنه.
والذي نراه أن السحر على أضرب منها:
أولا: ضرب يترتب على مزاولته قلب الحقائق كقلب الإنسان حيوانا وعكسه، وهذا قد منعه المعتزلة بحجة أن الساحر لو أمكنه ذلك لا لتلبس فعله هذا بمعجزات الأنبياء. وأهل السنة أجازوا وقوعه وإن كان لم يقع فعلا. ويفرقون بينه وبين المعجزة إن وقع، بأن المعجزة خارق يظهر على يد من يدعى النبوة على سبيل التحدي والمعارضة، والسحر ليس فيه دعوى نبوة ولا معارضة.
هذا، مع ملاحظة أن السحر يمكن تعلمه وتعليمه، ولا يظهر إلا على يد شرير بخلاف المعجزة.
قال فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين: وهذا النوع لم يقع لنا دليل في الشريعة على وقوعه، وربما كانت الحاجة إلى الفرق بين المعجزة والسحر فرقا واضحا تقتضي عدم وقوعه، فالساحر لا يبلغ أن يقلب العصا ثعبانا، ولا أن يفلق البحر فتمر بين فرقيه الجيوش ولا أن يجعل الماء ينبع بين الأصابع فتروى منه العطاش، أعنى أنه لا يجرى على يده من خوارق العادات، مثل ما يجرى على أيدى الأنبياء للإعجاز «1» .
ثانيا: أن يزاول بعض أرباب النفوس الخبيثة أفعالا يترتب عليها الضرر بدون مماسة ولا ملابسة لمن وقع عليه الضرر، وهذا الضرب قد جوز وقوعه أهل السنة ومنعه المعتزلة، ومن أمثلته ما يفعله السحرة للتفريق بين المرء وزوجه والظاهر في هذا الضرب قول أهل السنة لأن القرآن الكريم قد حكى عن السحرة انهم يتعلمون من السحر ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وقد صح الحديث أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنه حينما استخرج السحر خف جسمه صلّى الله عليه وسلّم كأنما نشط من عقال.
ثالثا: مزاولة أسباب يترتب عليها آثار ظاهرية لا حقيقية وهذا الضرب واقع باتفاق بين أهل السنه والمعتزلة، وقد حكاه القرآن الكريم عن سحرة فرعون في قوله تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وفي قوله تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى.
هذا، وقد حذر الإسلام من تعاطى السحر للاذى، وجاءت تعاليمه بذمه وتحريمه، وتوعدت مرتكبه بالعقوبات الأليمة، ففي الحديث الشريف «حد الساحر ضربه بالسيف» .
وقد أفتى بعض الفقهاء بقتل الساحر لأنه زنديق، وبعضهم أفتى بأن الساحر إذا كان قد أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقتص منه، وإن كان قد أحدث به ما لا قصاص فيه، حكم عليه بدية مناسبة.
وبعد، فهذه كلمة ذكرناها عن السحر، لم نقصد بها الخوض في تفصيلاته. وإنما قصدنا بها إعطاء القارئ فكرة مختصرة عنه بمناسبة حديثنا عن رذائل اليهود التي منها نبذهم لكتاب الله واتباعهم للأوهام والأباطيل والأكاذيب.
ثم وجه القرآن نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم بألفاظ معينة حتى لا يتخذها اليهود ذريعة للإساءة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال تعالى: