الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 100 من سورة آل عمران
وبعد أن بين- سبحانه- في هاتين الآيتين أن اليهود قد جمعوا الخستين ضلال أنفسهم، ثم محاولتهم تضليل غيرهم، تركهم مؤقتا في طغيانهم يعمهون، ووجه نداء إلى المؤمنين يحذرهم فيه من دسائس اليهود وكيدهم، وينهاهم عن الركون إليهم، والاستماع إلى مكرهم فقال - تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ.
والمعنى: إنكم أيها المؤمنون إن استمعتم إلى ما يلقيه بعض أهل الكتاب بينكم من دسائس ولنتم لهم، لا يكتفون بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم كما في الجاهلية، بل يتجاوزون ذلك إلى محاولتهم إعادتكم إلى وثنيتكم القديمة وكفركم بالله بعد إيمانكم.
وقد خاطب الله المؤمنين بذاته في هذه الآية بعد أن أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يخاطب أهل الكتاب في الآيتين السابقتين، إظهارا لجلالة قدرهم، وإشعارا بأنهم الأحقاء بالمخاطبة من الله- تعالى-.
وناداهم بصفة الإيمان لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه الإيمان من فطنة ويقظة فالمؤمن ليس خبا ولكن الخب لا يخدعه.
وفي التعبير «بإن» في قوله: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً إشارة إلى أن طاعتهم لليهود ليست متوقعة، لأن إيمانهم يمنعهم من ذلك.
ووصف- سبحانه- الذين يحاولون الوقيعة بين المؤمنين بأنهم فريق من الذين أوتوا الكتاب، إنصافا لمن لم يفعل ذلك منهم.
ونعتهم بأنهم أُوتُوا الْكِتابَ للإشعار بأن تضليلهم متعمد وبأن تآمرهم على المؤمنين مقصود، فهم أهل كتاب وعلم، ولكنهم استعملوا علمهم في الشرور والآثام.
وقوله: يَرُدُّوكُمْ أصل الرد الصرف والإرجاع، إلا أنه هنا مستعار لتغير الحال بعد المخالطة فيفيد معنى التصيير كقول الشاعر:
فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا
أى: يصيروكم بعد إيمانكم كافرين. والكاف مفعوله الأول وكافرين مفعوله الثاني.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- في آية أخرى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ .