الوسيط للطنطاوي
تفسير الآية رقم 99 من سورة آل عمران
وبعد أن أنبهم القرآن الكريم في هذه الآية على كفرهم وضلالهم، أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم في آية ثانية أن يوبخهم على محاولتهم إضلال غيرهم فقال- تعالى-: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وقوله: تَصُدُّونَ من الصد وهو صرف الغير عن الشيء ومنعه منه. يقال: صد يصد صدودا، وصدا.
وقوله: سَبِيلِ اللَّهِ أى طريقه الموصلة إليه وهي ملة الإسلام.
وقوله: تَبْغُونَها عِوَجاً أى تطلبون لها العوج. يقال: بغيت له كذا أى طلبته والعوج- بكسر العين- الميل والزبغ في الدين والقول والعمل وكل ما خرج عن طريق الهدى إلى طريق الضلال فهو عوج. والعوج- بفتح العين- يكون في المحسوسات كالميل في الحائط والرمح وكل شيء منتصب قائم أى أن مكسور العين يكون في المعاني ومفتوحها في الأعيان.
والمعنى: قل يا محمد لأهل الكتاب مرة أخرى مبالغة في تقريعهم وإزاحة لأعذارهم. لأى شيء تصرفون المؤمنين عن الإيمان الحق، وتمنعون من آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم عن الاستمرار على اتباعه، وتثيرون الفتنة والوقيعة بين أصحابه.
وقوله: تَبْغُونَها عِوَجاً أى تطلبون العوج والميل لسبيل الله الواضحة والميل بها عن القصد والاستقامة، وتريدون أن تكون ملتوية غير واضحة في أعين المهتدين، كما التوت نفوسكم، وانحرفت عقولكم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت كيف قال تبغونها عوجا وهو محال؟ قلت: فيه معنيان:
أحدهما: أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أن فيها اعوجاجا بقولكم إن شريعة موسى لا تنسخ، وبتغييركم صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن وجهها وغير ذلك.
والثاني: أنكم تتعبون أنفسكم في إخفاء الحق ابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم» .
وقوله: مَنْ آمَنَ مفعول به لتصدون. والضمير المنصوب في قوله: تَبْغُونَها يعود إلى سبيل الله أى تبغون لها فحذفت اللام كما في قوله- تعالى-: وَإِذا كالُوهُمْ أى كالوا لهم.
وقوله: عِوَجاً مفعول به لتبغون.
وبعضهم جعل الضمير المنصوب في تَبْغُونَها وهو الهاء هو المفعول. وجعل عوجا حال من سبيل الله. أى تبغونها أن تكون معوجة وتريدونها في حال عوج واضطراب.
وقوله: وَأَنْتُمْ شُهَداءُ حال من فاعل تَصُدُّونَ أو تبغون.
أى والحال أنكم تعلمون بأن سبيل الإسلام هي السبيل الحق علم من يعاين ويشاهد الشيء على حقيقته فجحودكم عن علم وكفركم ليس عن جهل، ولقد كان المتوقع منكم يا من ترون الحق الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم في كتابكم، أن تكونوا أول المساعين إلى الإيمان به، ولكن الحسد والعناد حالا بينكم وبين الانتفاع بالنور الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تهديد لهم ووعيد على ضلالهم ومحاولتهم إضلال غيرهم، لأنه- سبحانه- ليس غافلا عن أعمالهم، بل هو سيجازيهم على هذه المسالك الخبيثة بالفشل والذلة في الدنيا، وبالعذاب والهوان في الآخرة ولما كان صدهم المؤمنين بطريق الخفية ختمت الآية الكريمة بما يحسم مادة حياتهم، ببيان أن الله- تعالى- محيط بكل ما يصدر عنهم من أقوال أو أعمال وليس غافلا عنها. بخلاف الآية الأولى فقد كان كفرهم بطريق العلانية إذ ختمت ببيان أن الله مشاهد لما يعملونه ولما يجاهرون به.