سورة الزمر
مكية إلا قوله قُلْ يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ الآية .
بسم الله الرحمن الرحيم
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ
اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 1 )
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا
لَهُ الدِّينَ ( 2 ) أَلا
لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ
كَاذِبٌ كَفَّارٌ ( 3 )
(
تَنـزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ ) [ أي:
هذا تنـزيل الكتاب من الله. وقيل: تنـزيل الكتاب ] مبتدأ
وخبره: ( مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) أي:
تنـزيل الكتاب من الله لا من غيره.
(
إِنَّا أَنـزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) قال
مقاتل: لم ننـزله باطلا لغير شيء, (
فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ )
الطاعة.
( أَلا
لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) قال قتادة: شهادة أن لا إله
إلا الله. وقيل: [ لا يستحق الدين الخالص إلا
الله وقيل: الدين الخالص من الشرك هو لله ] .
(
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ ) أي: من
دون الله, ( أَوْلِيَاء ) يعني:
الأصنام, ( مَا نَعْبُدُهُمْ ) أي
قالوا: ما نعبدهم, ( إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى
اللَّهِ زُلْفَى ) وكذلك قرأ ابن مسعود, وابن
عباس.
قال قتادة: وذلك أنهم إذا قيل
لهم: من ربكم, ومن خلقكم, ومن خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله, فيقال لهم: فما
معنى عبادتكم الأوثان؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى, أي: قربى, وهو اسم أقيم في
مقام المصدر: كأنه قال: إلا ليقربونا إلى الله تقريبًا ويشفعوا لنا عند الله, ( إِنَّ
اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ) يوم القيامة ( فِي
مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) من أمر الدين ( إِنَّ
اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) لا
يرشد لدينه من كذب فقال: إن الآلهة تشفع وكفى باتخاذ الآلهة دونه كذبًا [
وكفرا ]
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ
يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ
اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 4 )
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ
وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ
يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ( 5 )
( لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ
يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى ) لاختار, (
مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ) يعني: الملائكة, كما قال:
لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا (
الأنبياء - 17 ) ثم نـزه نفسه فقال: (
سُبْحَانَهُ ) تنـزيها له عن ذلك, وعما لا يليق بطهارته, ( هُوَ
اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) .
( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ
النَّهَارَ عَلَى اللَّيْل ) قال قتادة: يغشي هذا هذا, كما
قال: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ (
الأعراف- 54 ) وقيل: يدخل أحدهما على الآخر كما قال: يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ( الحج-
61 ) .
وقال الحسن, والكلبي: ينقص من الليل فيزيد في النهار, وينقص
من النهار فيزيد في الليل, فما نقص من الليل دخل في النهار, وما نقص من النهار دخل
في الليل, ومنتهى النقصان تسع ساعات, ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة, وأصل التكوير
اللف والجمع, ومنه: كور العمامة. (
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ
الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) .
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ
بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( 6 )
(
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) يعني:
آدم, ( ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) يعني
حواء, ( وَأَنـزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ) معنى
الإنـزال هاهنا: الإحداث والإنشاء, كقوله تعالى: أَنْـزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا
يُوَارِي سَوْآتِكُمْ ( الأعراف- 26 ) .
وقيل: إنه أنـزل الماء الذي هو
سبب نبات القطن الذي يكون منه اللباس, وسبب النبات الذي تبقى به الأنعام.
وقيل: «
وَأَنْـزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ » جعلها
لكم نـزلا ورز قًا. ( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) أصناف,
تفسيرها في سورة الأنعام ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) نطفة
ثم علقة ثم مضغة, كما قال الله تعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ( نوح-
14 ) ( فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) قال
ابن عباس: ظلمة البطن, وظلمة الرحم, وظلمة المشيمة (
ذَلِكُمُ اللَّهُ ) الذي خلق هذه الأشياء, (
رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) عن
طريق الحق بعد هذا البيان.
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ
اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا
يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ
مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ ( 7 )
وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا
خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ
وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ
قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ( 8 )
( إِنْ
تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) قال
ابن عباس والسدي: لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر, وهم الذين قال الله تعالى: إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر-
42 ) فيكون عامًا في اللفظ خاصًا في المعنى, كقوله تعالى:
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ (
الإنسان- 6 ) يريد بعض العباد, وأجراه قوم على العموم, وقالوا: لا يرضى
لأحد من عباده الكفر.
ومعنى الآية: لا يرضى لعباده أن
يكفروا به. يروى ذلك عن قتادة, وهو قول السلف, قالوا: كفر الكافر غير مرضي لله عز
وجل, وإن كان بإرادته. ( وَإِنْ تَشْكُرُوا ) تؤمنوا
بربكم وتطيعوه, ( يَرْضَهُ لَكُمْ )
فيثيبكم عليه. قرأ أبو عمرو: « يرضه لكم » ساكنة
الهاء, ويختلسها أهل المدينة وعاصم وحمزة, والباقون بالإشباع ( وَلا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) .
(
وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ) راجعًا
إليه مستغيثًا به, ( ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ
نِعْمَةً مِنْهُ ) أعطاه نعمة منه, ( نَسِي
) ترك ( مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ
مِنْ قَبْلُ ) أي: نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه, (
وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا ) يعني: الأوثان, (
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) ليزل عن دين الله.
( قُل ) لهذا
الكافر: ( تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا ) في
الدنيا إلى أجلك, ( إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّارِ ) قيل: نـزلت في عتبة بن ربيعة, وقال مقاتل: [
نـزلت ] في أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي. وقيل: عام في كل كافر .
أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ
آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ
رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ( 9 )
( أَمْ
مَنْ هُوَ قَانِتٌ ) قرأ ابن كثير ونافع وحمزة: « أمن » بتخفيف
الميم, وقرأ الآخرون بتشديدها, فمن شدد فله وجهان:
أحدهما: أن تكون الميم في « أم » صلة,
فيكون معنى الكلام استفهامًا وجوابه محذوفًا مجازه: أمن هو قانت كمن هو غير قانت؟
كقوله: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ (
الزمر- 22 ) يعني كمن لم يشرح صدره.
والوجه الآخر: أنه عطف على
الاستفهام, مجازه: الذي جعل لله أندادًا خير أمن هو قانت؟ ومن قرأ بالتخفيف فهو
ألف استفهام دخلت على من, معناه: أهذا كالذي جعل لله أندادًا؟
وقيل: الألف في « أمن » بمعنى
حرف النداء, تقديره: يا من هو قانت, والعرب تنادي بالألف كما تنادي بالياء, فتقول:
أبني فلان ويا بني فلان, فيكون معنى الآية: قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب
النار, يا من هو قانت ( آنَاءَ اللَّيْلِ ) إنك من
أهل الجنة, قاله ابن عباس.
وفي رواية عطاء: نـزلت في أبي
بكر الصديق .
وقال الضحاك: نـزلت في أبي بكر
وعمر رضي الله عنهما .
وعن ابن عمر أنها نـزلت في
عثمان .
وعن الكلبي أنها نـزلت في ابن
مسعود وعمار وسلمان.
والقانت: المقيم على الطاعة.
قال ابن عمر: « القنوت » : قراءة القرآن وطول القيام, و
« آناء الليل » :
ساعاته, ( سَاجِدًا وَقَائِمًا ) يعني:
في الصلاة, ( يَحْذَرُ الآخِرَةَ ) يخاف
الآخرة, ( وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ) يعني:
كمن لا يفعل شيئًا من ذلك, ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) قيل: « الذين
يعلمون » عمار, و « الذين لا يعلمون » : أبو
حذيفة المخزومي, ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو
الألْبَابِ ) .
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ
وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ
حِسَابٍ ( 10 )
( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) بطاعته واجتناب معصيته, (
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ) أي:
آمنوا وأحسنوا العمل, ( حَسَنَة ) يعني:
الجنة, قاله مقاتل. وقال السدي: في هذه الدنيا حسنة يعني: الصحة والعافية, (
وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ) قال ابن عباس: يعني ارتحلوا
من مكة. وفيه حث على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي.
وقيل: نـزلت في مهاجري الحبشة.
وقال سعيد بن جبير: من أمر بالمعاصي فليهرب. (
إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الذين
صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى.
وقيل: نـزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه, حيث لم يتركوا
دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا .
قال علي رضي الله عنه: كل مطيع يكال له كيلا ويوزن له وزنًا
إلا الصابرون, فإنه يحثى لهم حثيًا .
ويروى: « يؤتي بأهل البلاء فلا ينصب
لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان, ويصب عليهم الأجر صبًا بغير حساب » . قال
الله تعالى: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ
حِسَابٍ ) حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض
مما يذهب به أهل البلاء من الفضل.
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ
أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ( 11 )
وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ( 12 ) قُلْ
إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 13 ) قُلِ
اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ( 14 )
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ
الْمُبِينُ ( 15 )
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ
يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ( 16 )
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ
لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ( 17 )
( قُلْ
إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ) مخلصًا
له التوحيد لا أشرك به شيئًا.
( وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ
الْمُسْلِمِينَ ) من هذه الأمة.
( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ
عَصَيْتُ رَبِّي ) وعبدت غيره, (
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) وهذا حين دعي إلى دين آبائه.
( قُلِ
اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) أمر
توبيخ وتهديد, كقوله: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ( فصلت-
40 ) ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ )
أزواجهم وخدمهم, ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) قال
ابن عباس: وذلك أن الله جعل لكل إنسان منـزلا في الجنة وأهلا فمن عمل بطاعة الله
كان ذلك المنـزل والأهل له, ومن عمل بمعصية الله دخل النار, وكان ذلك المنـزل
والأهل لغيره ممن عمل بطاعة الله . وقيل: خسران النفس بدخول النار, وخسران الأهل
بأن يفرق بينه وبين أهله, ( أَلا ذَلِكَ هُوَ
الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) .
(
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ ) أطباق
سرادقات من النار ودخانها, ( وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) فراش
ومهاد من نار إلى أن ينتهي إلى القعر, وسمي الأسفل ظللا لأنها ظلل لمن تحتهم
نظيرها قوله عز وجل: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ (
الأعراف- 41 ) .
( ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ
بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ) .
(
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ )
الأوثان ( أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ ) رجعوا
إلى عبادة الله, ( لَهُمُ الْبُشْرَى ) في
الدنيا والجنة في العقبى ( فَبَشِّرْ عِبَادِ ) .
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ
الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ
وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ ( 18 )
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي
النَّارِ ( 19 )
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ
مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ
اللَّهُ الْمِيعَادَ ( 20 )
(
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْل )
القرآن, ( فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) قال
السدي: أحسن ما يؤمرون فيعملون به. وقيل: هو أن الله تعالى ذكر في القرآن الانتصار
من الظالم وذكر العفو, والعفو أحسن الأمرين. وقيل: ذكر العزائم والرخص فيتبعون
الأحسن وهو العزائم. وقيل: يستمعون القرآن وغير القرآن فيتبعون القرآن.
وقال عطاء عن ابن عباس: آمن أبو
بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءه عثمان, وعبد الرحمن بن عوف, وطلحة, والزبير,
وسعد بن أبي وقاص, وسعيد بن زيد, فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا, فنـزلت فيهم : « فبشر
عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه » وكله
حسن. ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ
أُولُو الألْبَابِ ) .
وقال ابن زيد: نـزلت « والذين
اجتنبوا الطاغوت » الآيتان, في ثلاثة نفر كانوا
في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله: زيد بن عمرو بن نفيل, وأبو ذر الغفاري,
وسلمان الفارسي . والأحسن: قول لا إله إلا الله.
(
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ) قال
ابن عباس رضي الله عنهما: من سبق في علم الله أنه من أهل النار. وقيل: كلمة العذاب
[ قوله: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ , وقيل: ] قوله: « هؤلاء
في النار ولا أبالي » . (
أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) أي: لا
تقدر عليه. قال ابن عباس: يريد أبا لهب وولده.
( لَكِنِ
الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ
أي: منازل في الجنة رفيعة, وفوقها منازل أرفع منها, ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ) أي: وعدهم الله تلك
الغرف والمنازل وعدًا لا يخلفه.
أخبرنا عبد الواحد المليحي,
أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل,
حدثني عبد العزيز بن عبد الله, حدثني مالك عن صفوان بن سليم, عن عطاء بن يسار, عن
أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن أهل
الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من
المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم » ,
قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم, قال: « بلى,
والذي نفسي بيده, رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين » .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ
يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ
مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي
الأَلْبَابِ ( 21 )
قوله عز وجل: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنـزلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ ) أدخل ذلك الماء, ( يَنَابِيعَ ) عيونًا وركايا (
فِي الأرْضِ ) قال الشعبي: كل ماء في الأرض فمن السماء نـزل, ( ثُمَّ يُخْرِجُ
بِهِ ) أي: بالماء ( زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ) أحمر وأصفر وأخضر, ( ثُمَّ
يَهِيجُ ) ييبس ( فَتَرَاه ) بعد خضرته ونضرته, ( مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ
حُطَامًا ) فتاتًا متكسرًا, ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ) .
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ
صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 22 )
قوله عز وجل: (
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ) وسعه
لقبول الحق, ( فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) ليس
كمن أقسى الله قلبه.
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم
الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي, أخبرنا ابن فنجويه,
حدثنا عبد الله بن محمد بن شيبة, حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن يزيد الموصلي
ببغداد, حدثنا أبو فروة واسمه يزيد بن محمد, حدثني أبي عن أبيه, حدثنا زيد بن أبي
أنيسة, عن عمرو بن مرة, عن عبد الله بن الحارث, عن عبد الله بن مسعود قال: تلا
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أفمن شرح الله صدره للإسلام
فهو على نور من ربه ) قلنا: يا رسول الله كيف
انشراح صدره؟ قال: « إذا دخل النور القلب انشرح
وانفسح » قلنا: يا رسول الله فما علامة ذلك؟ قال: «
الإنابة إلى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والتأهب للموت قبل نـزول الموت » .
قوله عز وجل: (
فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ ) قال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب,
وما غضب الله عز وجل على قوم إلا نـزع منهم الرحمة .
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ
الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 23 )
قوله عز وجل: (
اللَّهُ نـزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ) يشبه
بعضه بعضًا في الحسن, ويصدق بعضه بعضًا ليس فيه تناقض ولا اختلاف. (
مَثَانِيَ ) يثنى فيه ذكر الوعد والوعيد, والأمر والنهي, والأخبار
والأحكام, ( تَقْشَعِر ) تضطرب
وتشمئز, ( مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ )
والاقشعرار تغير في جلد الإنسان عند الوجل والخوف, وقيل: المراد من الجلود القلوب,
أي: قلوب الذين يخشون ربهم, ( ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) أي:
لذكر الله, أي: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله, وإذا ذكرت آيات
الرحمة لانت وسكنت قلوبهم, كما قال الله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ ( الرعد- 28 ) .
وحقيقة المعنى: أن قلوبهم تقشعر
من الخوف, وتلين عند الرجاء.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي,
أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرني الحسين بن محمد, حدثنا موسى بن محمد بن علي,
حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل, حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني, حدثنا عبد العزيز
بن محمد عن يزيد بن الهاد, عن محمد بن إبراهيم التيمي, عن أم كلثوم بنت العباس, عن
العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا
اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها
» .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي,
أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرني الحسين بن محمد, حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان,
حدثنا موسى بن إسحاق الأنصاري, حدثنا محمد بن معاوية, حدثنا الليث بن سعد, حدثنا
يزيد بن عبد الله بن الهاد بهذا الإسناد, وقال: « إذا
اقشعر جلد العبد من خشية الله حرمه الله على النار » .
قال قتادة: هذا نعت أولياء الله
نعتهم الله بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر الله, ولم ينعتهم بذهاب عقولهم
والغشيان عليهم, إنما ذلك في أهل البدع, وهو من الشيطان.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي,
أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه, ثنا ابن شيبة, حدثنا
حمدان بن داود, حدثنا سلمة بن شيبة, حدثنا خلف بن سلمة, حدثنا هشيم عن حصين عن عبد
الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله
عز وجل تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم, قال فقلت لها: إن ناسًا اليوم إذا قرئ عليهم
القرآن خر أحدهم مغشيًا عليه, فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
وبه عن [
سليمان بن ] سلمة ثنا يحيى بن يحيى, حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي
أنا ابن عمر: مر برجل من أهل العراق ساقطًا فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ
عليه القرآن أو سمع ذكر الله سقط, قال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط!
وقال ابن عمر: إن الشيطان ليدخل
في جوف أحدهم, ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
وذكر عن ابن سيرين: الذين
يصرعون إذ قرئ عليهم القرآن؟ [ فقال: بيننا وبينهم أن يقعد
أحدهم على ظهر بيت باسطًا رجليه ثم يقرأ عليه القرآن ] من
أوله إلى آخره, فإن رمى بنفسه فهو صادق .
(
ذَلِكَ ) يعني: أحسن الحديث, ( هُدَى
اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
) .
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ
سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا
كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ( 24 )
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ ( 25 )
فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ
أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 26 )
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ ( 27 )
قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 28 )
(
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ ) أي:
شدته, ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) قال
مجاهد: يجر على وجهه في النار. وقال عطاء: يرمى به في النار منكوسًا فأول شيء منه
تمسه النار وجهه. قال مقاتل: هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه,
وفي عنقه صخرة مثل جبل عظيم من الكبريت, فتشتعل النار في الحجر, وهو معلق في عنقه
فخرَّ ووهجها على وجهه لا يطيق دفعها عن وجهه, للأغلال التي في عنقه ويده .
ومجاز الآية: أفمن يتقي بوجهه
سوء العذاب كمن هو آمن من العذاب؟
(
وَقِيلَ ) يعني: تقول الخزنة, (
لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) أي:
وباله.
(
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) من قبل
كفار مكة كذبوا الرسل, ( فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ
حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) يعني: وهم آمنون غافلون من
العذاب.
(
فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ ) العذاب
والهوان, ( فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) .
(
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ ) يتعظون.
(
قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) نصب على الحال, (
غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) قال ابن عباس: غير مختلف. قال
مجاهد: غير ذي لبس. قال السدي: غير مخلوق. ويروى ذلك عن مالك بن أنس, وحكي عن
سفيان بن عيينة عن سبعين من التابعين أن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق (
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) الكفر والتكذيب به.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا
فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ
مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 29 )
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ( 30 )
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ( 31 )
( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا
رَجُلا ) قال الكسائي: نصب رجلا لأنه تفسير للمثل, ( فِيهِ
شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ) متنازعون مختلفون سيئة
أخلاقهم, يقال: رجل شكس شرس, إذا كان سيء الخلق, مخالفًا للناس, لا يرضى بالإنصاف,
( وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ ) قرأ
أهل مكة والبصرة: « سالما » بالألف
أي: خالصًا له لا شريك ولا منازع له فيه, [
وقرأ الآخرون: « سلما »
بفتح اللام من غير ألف, وهو الذي لا ينازع فيه ] من
قولهم: هو لك سلم, أي: مسلم لا منازع لك فيه. ( هَلْ
يَسْتَوِيَانِ مَثَلا ) هذا مثل ضربه الله عز وجل للكافر
الذي يعبد آلهة شتى, والمؤمن الذي لا يعبد إلا الله الواحد, وهذا استفهام إنكار
أي: لا يستويان, ثم قال: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) أي:
لله الحمد كله دون غيره من المعبودين. ( بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ما يصيرون إليه والمراد
بالأكثر الكل.
( إِنَّكَ مَيِّتٌ ) أي:
ستموت, ( وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) أي:
سيموتون, قال الفراء والكسائي: الميت - بالتشديد- من لم يمت وسيموت, الميت -
بالتخفيف- من فارقه الروح, ولذلك لم يخفف هاهنا.
( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) قال
ابن عباس: يعني: المحق والمبطل, والظالم والمظلوم.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا
ابن فنجويه, حدثنا ابن مالك, حدثنا ابن حنبل, حدثني أبي, حدثنا ابن نمير, حدثنا
محمد يعني ابن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب, عن عبد الله بن الزبير, عن الزبير
بن العوام قال: لما نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثم
إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون » قال
الزبير: أي رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: « نعم
ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه » قال
الزبير: والله إن الأمر لشديد .
وقال ابن عمر: عشنا برهة من الدهر وكنا نرى أن هذه الآية
أنـزلت فينا وفي أهل الكتابين « ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم
تختصمون » قلنا: كيف نختصم وديننا وكتابنا واحد؟ حتى رأيت بعضنا يضرب
وجوه بعض بالسيف, فعرفت أنها نـزلت فينا .
وعن أبي سعيد الخدري في هذه الآية قال: كنا نقول ربنا واحد
وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض
بالسيوف قلنا: نعم هو هذا .
وعن إبراهيم قال: لما نـزلت: « ثم
إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون » قالوا:
كيف نختصم ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان قالوا: هذه خصومتنا ?
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أبو محمد عبد
الرحمن بن أبي شريح, أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي,
حدثنا علي بن الجعد, حدثنا ابن أبي ذئب, عن سعيد المقبري, عن أبي هريرة, عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: « من كانت لأخيه عنده مظلمة من
عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم, فإن كان له عمل
صالح أخذ منه بقدر مظلمته, وإن لم يكن له أخذ من سيئاته فجعلت عليه » .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي, أخبرنا أبو الحسن
الطيسفوني, أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري, حدثنا أحمد بن علي الكشمهيني, حدثنا
علي بن حجر, حدثنا إسماعيل بن جعفر, عن العلاء, عن أبيه, عن أبي هريرة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: « أتدرون من المفلس » ؟
قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع, قال: « إن
المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة, وكان قد شتم هذا, وقذف
هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا, فيقضي هذا من حسناته وهذا من حسناته, [
قال: فإن فنيت حسناته ] قبل أن يقضي ما عليه أخذ من
خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار » .
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ
عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى
لِلْكَافِرِينَ ( 32 )
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 33 )
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ( 34 )
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 35 )
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 36 )
قوله عز وجل: (
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ ) فزعم
أن له ولدًا وشريكًا, ( وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ )
بالقرآن, ( إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى ) منـزل
ومقام, ( لِلْكَافِرِينَ )
استفهام بمعنى التقرير.
( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ
وَصَدَّقَ بِهِ ) قال ابن عباس: « والذي
جاء بالصدق » يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلا إله إلا الله « وصدق
به » الرسول أيضًا بلغه إلى الخلق. وقال السدي: « والذي
جاء بالصدق » جبريل جاء بالقرآن, « وصدق
به » محمد صلى الله عليه وسلم تلقاه بالقبول. وقال الكلبي وأبو
العالية: « والذي جاء بالصدق » رسول
الله صلى الله عليه وسلم « وصدق به » أبو بكر
رضي الله عنه. وقال قتادة ومقاتل: « والذي
جاء بالصدق » رسول الله صلى الله عليه وسلم « وصدق
به » هم المؤمنون, لقوله عز وجل: (
أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) وقال عطاء: « والذي
جاء بالصدق » الأنبياء « وصدق به »
الأتباع, وحينئذ يكون الذي بمعنى: الذين, كقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ( البقرة- 17 ) ثم
قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ (
البقرة- 17 ) وقال الحسن: هم المؤمنون صدقوا به في الدنيا وجاءوا به في
الآخرة. وفي قراءة عبد الله بن مسعود: والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به. (
أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) .
( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا ) يسترها عليهم بالمغفرة, (
وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) قال
مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوئ.
قوله عز وجل: (
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) ؟
يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم, وقرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي: « عباده
» بالجمع يعني: الأنبياء عليهم السلام, قصدهم قومهم بالسوء كما
قال: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ( غافر-
5 ) فكفاهم الله شر من عاداهم, (
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) وذلك
أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم معرة الأوثان. وقالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا
أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) .
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا
لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ( 37 ) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ
بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ
مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ
الْمُتَوَكِّلُونَ ( 38 ) قُلْ
يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 39 ) مَنْ
يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ( 40 )
( وَمَنْ
يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي
انْتِقَامٍ ) منيع في ملكه, منتقم من أعدائه. ( ولئن
سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن
أرادني الله بضر ) بشدة وبلاء, ( هَلْ
هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ ) بنعمة
وبركة, ( هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ) قرأ
أهل البصرة: « كاشفات » و « ممسكات
» بالتنوين, « ضره » « ورحمته
» بنصب الراء والتاء, وقرأ الآخرون بلا تنوين وجر الراء والتاء
على الإضافة, قال مقاتل: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسكتوا, فقال
الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ
حَسْبِيَ اللَّهُ ) ، ثقتي به واعتمادي عليه, (
عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ) يثق به
الواثقون.
( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا
عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ
يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) أي:
ينـزل عليه عذاب دائم.
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ
فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ( 41 )
اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي
مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 42 )
(
إِنَّا أَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ) وبال
ضلالته عليه, ( وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ
بِوَكِيلٍ ) بحفيظ ورقيب لم توكل بهم ولا تؤاخذ بهم.
قوله عز وجل: ( اللَّهُ
يَتَوَفَّى الأنْفُسَ ) أي: الأرواح, ( حِينَ
مَوْتِهَا ) فيقبضها عند فناء أكلها وانقضاء أجلها, وقوله: ( حِينَ
مَوْتِهَا ) يريد موت أجسادها. (
وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ ) يريد يتوفى الأنفس التي لم
تمت, ( فِي مَنَامِهَا ) والتي
تتوفى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل والتمييز, ولكل إنسان نفسان:
إحداهما نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت فتزول بزوالها النفس, والأخرى نفس
التمييز وهي التي تفارقه إذا نام, وهو بعد النوم يتنفس (
فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ) فلا
يردها إلى الجسد.
قرأ حمزة والكسائي: « قضى » بضم
القاف وكسر الضاد وفتح الياء, « الموت » رفع على
ما لم يسم فاعله, وقرأ الآخرون بفتح القاف والضاد, « الموت
» نصب لقوله عز وجل: « الله
يتوفى الأنفس » (
وَيُرْسِلُ الأخْرَى ) ويرد الأخرى وهي التي لم يقض
عليها الموت إلى الجسد, ( إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) إلى أن
يأتي وقت موته.
ويقال: للإنسان نفس وروح, فعند
النوم تخرج النفس وتبقي الروح. وعن عليّ قال: تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في
الجسد, فبذلك يرى الرؤيا, فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة.
ويقال: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله, فإذا
أرادت الرجوع إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده, وأرسل أرواح الأحياء حتى
ترجع إلى أجسادها إلى انقضاء مدة حياتها.
أخبرنا عبد الواحد المليحي,
أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل,
حدثنا أحمد بن يونس, حدثنا زهير حدثنا عبد الله بن عمر حدثني سعيد بن أبي سعيد
المقبري, عن أبيه, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا
أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه, ثم
يقول: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها, وإن أرسلتها فاحفظها
بما تحفظ به عبادك الصالحين »
( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) لدلالات على قدرته حيث لم
يغلط في إمساك ما يمسك من الأرواح, وإرسال ما يرسل منها.
قال مقاتل: لعلامات لقوم يتفكرون
في أمر البعث, يعني: إن توفي نفس النائم وإرسالها بعد التوفي دليل على البعث.
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ
اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ
( 43 ) قُلْ
لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 44 )
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( 45 ) قُلِ
اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 46 )
( أَمِ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ ) يا
محمد, ( أَوَلَوْ كَانُوا ) وإن
كانوا يعني الآلهة, ( لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا ) من
الشفاعة, ( وَلا يَعْقِلُونَ ) أنكم
تعبدونهم. وجواب هذا محذوف تقديره: وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم.
( قُلْ
لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ) قال مجاهد: لا يشفع أحد إلا
بإذنه, ( لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ ) . ( وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ
وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ ) نفرت, وقال ابن عباس ومجاهد
ومقاتل: انقبضت عن التوحيد. وقال قتادة: استكبرت. وأصل الاشمئزاز النفور
والاستكبار, ( قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) .
(
وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) يعني: الأصنام
( إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ )
يفرحون, قال مجاهد ومقاتل: وذلك حين قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة والنجم
فألقى الشيطان في أمنيته: تلك الغرانيق العلى, ففرح به الكفار .
( قُلِ
اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ،
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو نعيم الإسفراييني,
أخبرنا أبو عوانة, حدثنا السلمي, حدثنا النضر بن محمد, حدثنا عكرمة بن عمار,
أخبرنا يحيى بن أبي كثير, حدثنا أبو سلمة قال: سألت عائشة رضي الله عنها بم كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة من الليل؟ قالت: كان يقول: « اللهم
رب جبريل وميكائيل وإسرافيل, فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم
بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون, اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من
تشاء إلى صراط مستقيم » .
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ
سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ( 47 )
قوله عز وجل: (
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ
لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ
اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) قال
مقاتل: ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة. قال
السدي: ظنوا أنها حسنات فبدت لهم سيئات, والمعنى: أنهم كانوا يتقربون إلى الله
بعبادة الأصنام, فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا. وروي أن محمد
بن المنكدر جزع عند الموت, فقيل له في ذلك فقال: أخشى أن يبدو لي ما لم أحتسب .
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ
مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 48 )
فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً
مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 49 ) قَدْ
قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ ( 50 )
(
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ) أي:
مساوئ أعمالهم من الشرك والظلم بأولياء الله. (
وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) .
( فَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ
ضُرٌّ ) شدة, ( دَعَانَا ثُمَّ إِذَا
خَوَّلْنَاهُ ) أعطيناه ( نِعْمَةً مِنَّا قَالَ
إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ) أي:
على علم من الله أني له أهل. وقال مقاتل: على خير علمه الله عندي, وذكر الكناية لأن
المراد من النعمة الإنعام, ( بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ) [
يعني: تلك النعمة فتنة ] استدراج من الله تعالى
وامتحان وبلية. وقيل: بل كلمته التي قالها فتنة. (
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أنه
استدراج وامتحان.
( قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ ) قال مقاتل: يعني قارون فإنه
قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي (
القصص- 78 ) ( فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ ) فما أغنى عنهم الكفر من
العذاب شيئًا.
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا
كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا
كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 51 )
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 52 ) قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 53 )
(
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ) أي:
جزاؤها يعني العذاب. ثم أوعد كفار مكة فقال: (
وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا
هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) بفائتين لأن مرجعهم إلى الله
عز وجل.
( أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ ) أي:
يوسع الرزق لمن يشاء, ( وَيَقْدِرُ ) أي:
يقتر على من يشاء, ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .
قوله عز وجل: ( قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ )
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس:
أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا, وزنوا وأكثروا, فأتوا النبي صلى الله عليه
وسلم وقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة, فنـزلت هذه
الآية .
وقال عطاء بن أبي رباح عن ابن
عباس رضي الله عنهما: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي يدعوه إلى
الإسلام, فأرسل إليه: كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق
آثامًا, يضاعف له العذاب, وأنا قد فعلت ذلك كله, فأنـزل الله عز وجل: إِلا مَنْ
تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ( مريم-
60 ) فقال وحشي: هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك؟
فأنـزل الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ( النساء: 48 ، 116 ) فقال
وحشي: أراني بعد في شبهة, فلا أدري يغفر لي أم لا؟ فأنـزل الله تعالى: « قل يا
عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله » , فقال وحشي:
نعم هذا, فجاء وأسلم , فقال المسلمون: هذا له خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال: بل
للمسلمين عامة .
وروي عن ابن عمر قال: نـزلت هذه
الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا
ثم فتنوا وعذبوا, فافتتنوا فكنا نقول: لا يقبل الله من هؤلاء صرفًا ولا عدلا
أبدًا, قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه, فأنـزل الله تعالى هذه الآيات,
فكتبها عمر بن الخطاب بيده ثم بعث بها إلى عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد وإلى
أولئك النفر فأسلموا وهاجروا .
وروى مقاتل بن حيان عن نافع عن
ابن عمر قال: كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول: ليس بشيء
من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نـزلت: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ( محمد- 33 ) فلما
نـزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر والفواحش, قال:
فكنا إذا رأينا من أصاب شيئًا منها قلنا قد هلك, فنـزلت هذه الآية, فكففنا عن
القول في ذلك, فكنا إذا رأينا أحدًا أصاب منها شيئًا خفنا عليه, وإن لم يصب منها
شيئًا رجونا له , وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر .
وروي عن ابن مسعود أنه دخل
المسجد فإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال, فقام على رأسه فقال: يا مذكر لم
تقنط الناس؟ ثم قرأ: « يا عبادي الذين أسرفوا على
أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله » .
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم
الترابي, أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الحموي أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن خزيم
الشاشي, حدثنا [ عبد الله ] بن
حميد, حدثنا حيان بن هلال وسليمان بن حرب وحجاج بن منهال قالوا: حدثنا حماد بن
سلمة عن ثابت, عن شهر بن حوشب, عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: « ( يا
عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا
) ولا يبالي » .
أخبرنا عبد الواحد المليحي,
أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل
حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد ابن أبي عدي عن شعبة عن قتادة عن أبي الصديق
الناجي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كان في
بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانًا, ثم خرج يسأل فأتى راهبًا فسأله, فقال:
هل لي من توبة؟ فقال: لا فقتله فكمل به المائة, فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا,
فأدركه الموت فنأى بصدره نحوها, فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, فأوحى
الله تعالى إلى هذه أن تقربي وأوحى إلى هذه أن تباعدي, وقال: قيسوا ما بينهما فوجد
إلى هذه أقرب بشبر فغفر له » .
ورواه مسلم بن الحجاج عن محمد
بن المثنى العنبري عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة بهذا الإسناد, وقال: « فدل
على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا فهل له من توبة؟ فقال له: لا فقتله
وكمل به مائة, ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم, فقال له: قتلت مائة نفس
فهل لي من توبة؟ فقال: نعم, ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا
فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء,
فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت, فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة
العذاب, فأتاهم ملك من صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى
أيتهما كان أدنى فهو له, فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد, فقبضته ملائكة
الرحمة » .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي,
أخبرنا زاهر بن أحمد, أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي, أخبرنا أبو
مصعب, عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: « قال رجل - لم يعمل خيرًا قط - لأهله إذا مات فحرقوه, ثم
اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا
يعذبه أحدا من العالمين, قال: فلما مات فعلوا ما أمرهم, فأمر الله البحر فجمع ما
فيه وأمر البر فجمع ما فيه, ثم قال له: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت
أعلم, فغفر له » .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد
الله بن أبي توبة, أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث, أخبرنا أبو الحسين
محمد بن يعقوب الكسائي, أخبرنا عبد الله بن محمود, أخبرنا إبراهيم بن عبد الله
الخلال, حدثنا عبد الله بن المبارك عن عكرمة بن عمار, حدثنا ضمضم بن جوس قال: دخلت
مسجد المدينة فناداني شيخ, فقال: يا يماني تعال, وما أعرفه, فقال: لا تقولن لرجل:
والله لا يغفر الله لك أبدًا, ولا يدخلك الله الجنة, قلت: ومن أنت يرحمك الله؟
قال: أبو هريرة, قال فقلت: إن هذه الكلمة [
يقولها ] أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته أو لخادمه, قال: فإني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن
رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد في العبادة والآخر يقول كأنه
مذنب, فجعل يقول: أقصر أقصر عما أنت فيه, قال فيقول: خلني وربي, قال: حتى وجده
يومًا على ذنب استعظمه, فقال: أقصر, فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيبًا؟ فقال:
والله لا يغفر الله لك أبدًا, ولا يدخلك الجنة أبدًا. قال: فبعث الله إليهما ملكًا
فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده, فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي, وقال للآخر: أتستطيع
أن تحظر على عبدي رحمتي؟ فقال: لا يا رب, فقال اذهبوا به إلى النار » قال أبو
هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته .
قوله عز وجل: ( إِنَّ
اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .
أخبرنا عبد الرحمن بن أبي بكر
القفال, أخبرنا أبو مسعود محمد بن أحمد بن يونس الخطيب, حدثنا محمد بن يعقوب
الأصم, حدثنا أبو قلابة, حدثنا أبو عاصم, حدثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار
عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: إِلا اللَّمَمَ (
النجم- 32 ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن تغفـر اللهـم تغفـر جمـا وأي
عبـــد لــك لا ألمـــا
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ
وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ
( 54 )
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ( 55 )
قوله عز وجل: (
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ ) أقبلوا وارجعوا إليه بالطاعة,
( وَأَسْلِمُوا لَهُ ) أخلصوا
له التوحيد, ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا
تُنْصَرُونَ ) .
(
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنـزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) يعني:
القرآن, والقرآن كله حسن, ومعنى الآية ما قاله الحسن: التزموا طاعته واجتنبوا
معصيته, فإن القرآن ذكر القبيح لتجتنبه, وذكر الأدون لئلا ترغب فيه, وذكر الأحسن
لتؤثره. قال السدي: « الأحسن » ما أمر
الله به في الكتاب, ( مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) .
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا
حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ ( 56 )
( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ ) يعني:
لئلا تقول نفس, كقوله: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ( النحل-
15 ) أي: لئلا تميد بكم, قال المبرد: أي بادروا واحذروا أن تقول
نفس. وقال الزجاج: خوف أن تصيروا إلى حال تقولون هذا القول, ( يَا
حَسْرَتَا ) يا ندامتا, والتحسر الاغتمام على ما فات, وأراد: يا حسرتي,
على الإضافة, لكن العرب تحول ياء الكناية ألفًا في الاستغاثة, فتقول: يا حسرتا ويا
ندامتا, وربما ألحقوا بها الياء بعد الألف ليدل على الإضافة, وكذلك قرأ أبو جعفر ( يا
حسرتاي ) , وقيل: معنى قوله: « يا
حسرتا » يا أيتها الحسرة هذا وقتك, ( عَلَى
مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ) قال
الحسن: قصرت في طاعة الله. وقال مجاهد: في أمر الله. وقال سعيد بن جبير: في حق
الله. وقيل: ضيعت في ذات الله. وقيل: معناه قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضاء
الله. والعرب تسمي الجنب جانبًا (
وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ )
المستهزئين بدين الله وكتابه ورسوله والمؤمنين قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة
الله حتى جعل يسخر بأهل طاعته.
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ
اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( 57 ) أَوْ
تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ ( 58 )
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ
الْكَافِرِينَ ( 59 )
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ
مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ( 60 )
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 61 )
( أَوْ
تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ
حِينَ تَرَى الْعَذَابَ ) عيانًا, ( لَوْ
أَنَّ لِي كَرَّةً ) رجعة إلى الدنيا, (
فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) الموحدين.
ثم يقال لهذا القائل: ( بَلَى
قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي ) يعني: القرآن, (
فَكَذَّبْتَ بِهَا ) وقلت إنها ليست من الله, (
وَاسْتَكْبَرْتَ ) تكبرت عن الإيمان بها, (
وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) .
( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى
الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ ) فزعموا
أن له ولدًا وشريكًا, ( وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) عن
الإيمان.
(
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ ) قرأ
حمزة, والكسائي, وأبو بكر: « بمفازاتهم » بالألف
على الجمع أي: بالطرق التي تؤديهم إلى الفوز والنجاة, وقرأ الآخرون: «
بمفازتهم » على الواحد لأن المفازة بمعنى الفوز, أي: ينجيهم بفوزهم من
النار بأعمالهم الحسنة, قال المبرد: المفازة مفعلة من الفوز, والجمع حسن كالسعادة
والسعادات ( لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ ) لا
يصيبهم المكروه, ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( 62 ) لَهُ
مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 63 ) قُلْ
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ( 64 )
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 65 ) بَلِ
اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 66 )
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 67 )
(
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) أي:
الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها. ( له
مقاليد السموات والأرض ) مفاتيح خزائن السموات والأرض
واحدها مقلاد, مثل مفتاح, ومقليد مثل منديل ومناديل. وقال قتادة ومقاتل: مفاتيح
السموات والأرض بالرزق والرحمة. وقال الكلبي: خزائن المطر وخزائن النبات. (
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) .
قوله عز وجل: ( قُلْ
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ) ؟ قال
مقاتل: وذلك أن كفار قريش دعوه إلى دين آبائه. قرأ أهل الشام «
تأمرونني » بنونين خفيفتين على الأصل, وقرأ أهل المدينة بنون واحدة خفيفة
على الحذف , وقرأ الآخرون بنون واحدة مشددة على الإدغام.
( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ
وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) الذي
عملته قبل الشرك وهذا خطاب مع الرسول صلى الله عليه وسلم, والمراد منه غيره. وقيل:
هذا أدب من الله عز وجل لنبيه وتهديد لغيره, لأن الله تعالى عصمه من الشرك. (
وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) .
( بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) لإنعامه عليك.
قوله عز وجل: ( وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) ما
عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره، ثم أخبر عن عظمته فقال: (
وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .
أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي,
أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا آدم, حدثنا شيبان عن منصور عن
إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال: « يا محمد إنا نجد أن الله يجعل
السموات على إصبع والأرضين على إصبع, والشجر على إصبع, والماء والثرى على إصبع,
وسائر الخلق على إصبع, فيقول: أنا الملك, فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت
نواجذه تصديقًا لقول الحبر, ثم قرأ: » وما
قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة « . »
ورواه مسلم بن الحجاج عن أحمد بن عبد الله بن يونس عن فضيل بن
عياض عن منصور, وقال: « والجبال والشجر على إصبع,
وقال: ثم يهزهن هزًا, فيقول: ( أنا الملك أنا الله ) » .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي, أخبرنا أحمد بن محمد بن
إبراهيم الثعلبي, أخبرني الحسين بن فنجويه, حدثنا عمر بن الخطاب, حدثنا عبد الله
بن الفضل, حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا أبو أسامة, عن عمر بن حمزة, عن سالم
بن عبد الله, أخبرني عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يطوي
الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى, ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون
أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بشماله, ثم يقول: أنا الملك أين
الجبارون أين المتكبرون » , هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن
أبي بكر بن أبي شيبة .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني,
حدثنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث, حدثنا محمد بن يعقوب الكسائي, أخبرنا عبد
الله بن محمود, أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, حدثنا عبد الله بن المبارك, عن
يونس عن الزهري, حدثني سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: « يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه, ثم يقول:
أنا الملك أين ملوك الأرض » .
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ
ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ( 68 )
قوله عز وجل: (
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ ) ماتوا
من الفزع وهي النفخة الأولى, ( إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ )
اختلفوا في الذين استثناهم الله عز وجل, وقد ذكرناهم في سورة النمل ، قال الحسن:
إلا من شاء الله يعني الله وحده, ( ثُمَّ
نُفِخَ فِيهِ ) أي: في الصور, (
أُخْرَى ) أي: مرة أخرى, (
فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ) [ من
قبورهم ] ينتظرون أمر الله فيهم.
أخبرنا عبد الواحد المليحي,
أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل,
حدثنا محمد, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: « ما بين النفختين أربعون » قالوا:
أربعون يومًا؟ قال: « أبيت » ,
قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: « أبيت » ,
قالوا: أربعون سنة؟ قال: « أبيت » , قال: « ثم
ينـزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا
عظم واحد, وهو عجب الذنب ومنه يتركب الخلق يوم القيامة . »
وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ
بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 69 )
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ( 70 )
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا
فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ
هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 71 )
قوله عز وجل: (
وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ ) أضاءت, (
بِنُورِ رَبِّهَا ) بنور خالقها, وذلك حين يتجلى
الرب لفصل القضاء بين خلقه, فما يتضارون في نوره كما لا يتضارون في الشمس في اليوم
الصحو. وقال الحسن والسدي: بعدل ربها, وأراد بالأرض عرصات القيامة, (
وَوُضِعَ الْكِتَابُ ) أي: كتاب الأعمال, (
وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) قال
ابن عباس: يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة, وهم أمة محمد صلى الله عليه
وسلم. وقال عطاء: يعني الحفظة, يدل عليه قوله تعالى: وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ
مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( ق- 21 ) (
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ) أي: بالعدل, (
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) أي: لا يزاد في سيئاتهم ولا
ينقص من حسناتهم.
(
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ ) أي:
ثواب ما عملت, ( وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا
يَفْعَلُونَ ) قال عطاء: يريد أني عالم بأفعالهم لا أحتاج إلى كاتب ولا
إلى شاهد.
( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِلَى جَهَنَّمَ ) سوقًا عنيفًا, (
زُمَرًا ) أفواجًا بعضها على إثر بعض, كل أمة على حدة قال أبو عبيدة
والأخفش: « زمرًا » أي: جماعات في تفرقة, واحدتها
زمرة ( حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ) السبعة
وكانت مغلقة قبل ذلك, قرأ أهل الكوفة « فتحت,
وفتحت » بالتخفيف, وقرأ الآخرون بالتشديد على التكثير (
وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ) توبيخًا وتقريعًا لهم, ( أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ) من أنفسكم (
يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ
هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ ) وجبت,
( كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) وهو قوله
عز وجل: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( هود-
119 ) .
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ( 72 )
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا
جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ
طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( 73 )
( قِيلَ
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ
زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ) قال
الكوفيون: هذه الواو زائدة حتى تكون جوابًا لقوله: « حتى
إذا جاءوها » كما في سوق الكفار, وهذا كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً ( الأنبياء-
48 ) [ أي: ضياء ] والواو
زائدة.
وقيل: الواو واو الحال, مجازه:
وقد فتحت أبوابها, فأدخل الواو لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم, وحذفها في الآية
الأولى لبيان أنها كانت مغلقة قبل مجيئهم.
فإذا لم تجعل الواو زائدة في
قوله: « وفتحت » اختلفوا في جواب قوله: « وقال
لهم خزنتها » والواو فيه ملغاة تقديره: حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال
لهم خزنتها. وقال الزجاج: القول عندي أن الجواب محذوف, تقديره: « حتى
إذا جاءوها وفتحت أبوابها, وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين » دخلوها,
فحذف « دخلوها » لدلالة الكلام عليه.
(
وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ) يريد
أن خزنة الجنة يسلمون عليهم ويقولون: طبتم. قال ابن عباس: طاب لكم المقام. قال
قتادة: هم إذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض
حتى إذا هذبوا وطيبوا أدخلوا الجنة, فقال لهم رضوان وأصحابه: « سلام
عليكم طبتم فادخلوها خالدين » .
وروي عن عليّ عليه السلام قال:
سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان
فيغتسل المؤمن من إحداهما فيطهر ظاهره, ويشرب من الأخرى فيطهر باطنه, وتلقيهم الملائكة
على أبواب الجنة يقولون: ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ
فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) .
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ
حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( 74 )
( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ ) أي:
أرض الجنة. وهو قوله عز وجل: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ
الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (
الأنبياء- 105 ) (
نَتَبَوَّأُ ) ننـزل, ( مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ
نَشَاءُ ) قال الله تعالى: (
فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) ثواب المطيعين.
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ
حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 75 )
(
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) أي:
محدقين محيطين بالعرش, مطيفين بحوافيه أي: بجوانبه, (
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) قيل:
هذا تسبيح تلذذ لا تسبيح تعبد, لأن التكليف [
يزول ] في ذلك اليوم (
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ) أي: قضي بين أهل الجنة والنار
بالعدل, ( وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يقول
أهل الجنة: شكرًا لله, حين تم وعد الله لهم.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد
المليحي, أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان, حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن
عبد الجبار الرياني, حدثنا حميد بن زنجويه, حدثنا عبيد الله بن موسى, حدثنا
إسرائيل, عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: إن مثل القرآن كمثل رجل
انطلق يرتاد لأهله منـزلا فمر بأثر غيث فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على
روضات دمثات ، فقال: عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب منه وأعجب, فقيل له: إن مثل
الغيث الأول مثل عظم القرآن, وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل الـ حم في القرآن
.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي,
أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أخبرنا أبو محمد الرومي, حدثنا أبو العباس السراج,
حدثنا قتيبة, حدثنا ابن لهيعة, عن يزيد بن أبي حبيب أن الجراح بن أبي الجراح حدثه
عن ابن عباس قال: لكل شيء لباب ولباب والقرآن الحواميم . وقال ابن مسعود: إذا وقعت
في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن . وقال سعد بن إبراهيم: كن - آل حم-
يسمين العرائس .