تفسير البغوي

58 - تفسير البغوي سورة المجادلة

التالي السابق

سورة المجادلة

مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( 1 )

( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ) الآية. نـزلت في خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن الصامت، وكانت حسنة الجسم وكان به لمم فأرادها فأبت، فقال لها: أنت عليَّ كظهر أمي، ثم ندم على ما قال. وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية. فقال لها: ما أظنك إلا قد حرمت عليَّ. فقالت: والله ما ذاك طلاق، وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعائشة رضي الله عنها تغسل شق رأسه - فقالت: يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات مال وأهل حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني، وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإياه تنعشني به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمتِ عليه، فقالت: يا رسول الله والذي أنـزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقًا وإنه أبو ولدي وأحب الناس إليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت عليه، فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي قد طالت صحبتي ونفضت له بطني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلا قد حرمت عليه، ولم أومر في شأنك بشيء، فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت عليه هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي وإن لي صِبْيَةً صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليَّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنـزل على لسان نبيك، وكان هذا أول ظهار في الإسلام.

فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر. فقالت: انظر في أمري جعلني الله فداءك يا نبي الله، فقالت عائشة: أقصري حديثك ومجادلتك أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نـزل عليه أخذه مثل السبات - فلما قضى الوحي قال لها: ادعي زوجك فدعته، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قد سمع الله قول التي تجادلك » الآيات .

قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها إن المرأة لتحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفى علي بعضه إذ أنـزل الله: « قد سمع الله » الآيات .

ومعنى قوله: ( قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ ) تخاصمك وتحاورك وتراجعك في زوجها ( وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ) مراجعتكما الكلام ( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) سميع لما تناجيه وتتضرع إليه، بصير بمن يشكو إليه، ثم ذم الظهار فقال: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ

الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( 2 )

( الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِم ) قرأ عاصم: « يظاهرون » فيها بضم الياء وتخفيف الظاء وألف بعدها وكسر الهاء. وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي: بفتح الياء والهاء، وتشديد الظاء وألف بعده. وقرأ الآخرون بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء من غير ألف.

( مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ) أي ما اللواتي يجعلونهن من زوجاتهم كالأمهات بأمهات. وخفض التاء في « أمهاتهم » على خبر « ما » ومحله نصب كقوله: مَا هَذَا بَشَرًا ( يوسف - 31 ) المعنى: ليس هن بأمهاتهم ( إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ ) أي ما أمهاتهم ( إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ ) لا يعرف في شرع ( وَزُورًا ) كذبا ( وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) عفا عنهم وغفر لهم بإيجاب الكفارة عليهم.

وصورة الظهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي، أو أنت مني أو معي أو عندي كظهر أمي، وكذلك لو قال: أنت عليَّ كبطن أمي أو كرأس أمي أو كيد أمي أو قال بطنك أو رأسك أو يدك علي كظهر أمي أو شبَّه عضوًا منها بعضوٍ آخر من أعضاء أمّه فيكون ظهارًا.

وعند أبي حنيفة - رضي الله عنه - إن شبهها ببطن الأم أو فرجها أو فخذها يكون ظهارًا وإن شبهها بعضو آخر لا يكون ظهارًا. ولو قال أنت علي كأمي أو كروح أمي وأراد به الإعزاز والكرامة فلا يكون ظهارًا حتى يريده، ولو شبهها بجدته فقال: أنت علي كظهر جدتي يكون ظهارًا وكذلك لو شبهها بامرأة محرّمة عليه بالقرابة بأن قال: أنت علي كظهر أختي أو عمتي أو خالتي أو شبهها بامرأة محرمة عليه بالرضاع يكون ظهارًا - على الأصح من الأقاويل - .

وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 3 )

( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) ثم حُكْم الظهارِ: أنه يحرم على الزوج وطؤها بعد الظهار ما لم يكفّر، والكفارة تجب بالعَوْدِ بعد الظهار. لقوله تعالى: « ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة » .

واختلف أهل العلم في « العَوْد » فقال أهل الظاهر: هو إعادة لفظ الظهار، وهو قول أبي العالية لقوله تعالى: « ثم يعودون لما قالوا » أي إلى ما قالوا [ أي أعادوه مرة أخرى ] . فإن لم يكرر اللفظ فلا كفارة عليه.

وذهب قوم إلى أن الكفارة تجب بنفس الظهار، والمراد من « العود » هو: العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من نفس الظهار، وهو قول مجاهد والثوري.

وقال قوم: المراد من « العود » الوطء وهو قول الحسن وقتادة وطاووس والزهري وقالوا: لا كفارة عليه ما لم يطأها. وقال قوم: هو العزم على الوطء، وهو قول مالك وأصحاب الرأي.

وذهب الشافعي إلى أن العود هو أن يمسكها عقيب الظهار زمانا يمكنه أن يفارقها فلم يفعل، فإن طلقها عقيب الظهار في الحال أو مات أحدهما في الوقت فلا كفارة عليه لأن العود للقول هو المخالفة. وفسر ابن عباس « العود » بالندم، فقال: يندمون فيرجعون إلى الألفة، ومعناه هذا.

قال الفراء يقال: عاد فلان لما قال، أي فيما قال، وفي نقض ما قال يعني: رجع عما قال.

وهذا يبين ما قال الشافعي وذلك أن قصده بالظهار التحريم، فإذا أمسكها على النكاح فقد خالف قوله ورجع عما قاله فتلزمه الكفارة، حتى قال: لو ظاهر عن امرأته الرجعية ينعقد ظهاره ولا كفارة عليه حتى يراجعها فإن راجعها صار عائدا ولزمته الكفارة.

قوله: ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) والمراد بـ « التّماس » : المجامعة، فلا يحل للمظاهر وطء امرأته التي ظاهر منها ما لم يكفر، سواء أراد التكفير بالإعتاق أو بالصيام أو بالإطعام، وعند مالك إن أراد التكفير بالإطعام يجوز له الوطء قبله، لأن الله تعالى قيد العتق والصوم بما قبل المسيس وقال في الإطعام: « فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا » ولم يقل: من قبل أن يتماسا. وعند الآخرين: الإطلاق في الإطعام محمول على المقيَّد في العتق والصيام.

واختلفوا في تحريم ما سوى الوطء من المباشرات قبل التكفير، كالقُبْلة والتلذذ: فذهب أكثرهم إلى أنه لا يحرم سوى الوطء، وهو قول الحسن، وسفيان الثوري وأظهر قولي الشافعي كما أن الحيض يحرم الوطء دون سائر الاستمتاعات.

وذهب بعضهم إلى أنه يحرم، لأن اسم « التماس » يتناول الكل، ولو جامع المظاهر قبل التكفير يعصي الله تعالى، والكفارة في ذمته. ولا يجوز أن يعود ما لم يكفر، ولا يجب بالجماع كفارة أخرى. وقال بعض أهل العلم: إذا واقعها قبل التكفير عليه كفارتان.

وكفارة الظهار مرتبة يجب عليه عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين، فإن أفطر يوما متعمدًا أو نسي النية يجب عليه استئناف الشهرين، فإن عجز عن الصوم يجب عليه أن يطعم ستين مسكينا. وقد ذكرنا في سورة المائدة مقدار ما يطعم كل مسكين . ( ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ) تؤمرون به ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 4 )

( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ) يعني الرقبة ( فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) فإن كانت له رقبة إلا أنه محتاج إلى خدمته، أو له ثمن رقبة لكنه محتاج إليه لنفقته ونفقة عياله فله أن ينتقل إلى الصوم. وقال مالك والأوزاعي: يلزمه الإعتاق إذا كان واجدًا للرقبة أو ثمنها وإن كان محتاجًا إليه. وقال أبو حنيفة: إن كان واجدًا لعينِ الرقبة يجب عليه إعتاقها وإن كان محتاجًا إليها فأما إذا كان واجدًا لثمن الرقبة وهو محتاج إليه فله أن يصوم، فلو شرع المظاهر في صوم شهرين ثم جامع في خلال الشهر بالليل يعصي الله تعالى بتقديم الجماع على الكفارة، ولكن لا يجب عليه استئناف الشهرين، وعند أبي حنيفة يجب عليه استئناف الشهرين.

قوله عز وجل: ( فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) يعني المظاهر إذا لم يستطع الصوم لمرض أو كبر أو فرط شهوة ولا يصبر عن الجماع يجب عليه إطعام ستين مسكينًا.

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري حدثنا أحمد بن علي الكشميهني حدثنا علي بن حُجْر، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن أبي حرملة، عن عطاء بن يسار أن خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن الصامت، فظاهر منها وكان به لمم، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أوسًا ظاهر مني وذكرت أن به لممًا فقالت: والذي بعثك بالحق ما جئتك إلا رحمة له إن له فيَّ منافع، فأنـزل القرآن فيهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مُرِيهِ فليعتِقْ رقبة، قالت: والذي بعثك بالحق ما عنده رقبة ولا ثمنها قال: مريه فليصم شهرين متتابعين، فقالت: والذي بعثك بالحق لو كلفته ثلاثة أيام ما استطاع، قال: مريه فليطعم ستين مسكينًا قالت: والذي بعثك بالحق ما يقدر عليه، قال: مريه فليذهب إلى فلان ابن فلان فقد أخبرني أن عنده شطر تمر صدقة، فليأخذه صدقة عليه ثم ليتصدق به على ستين مسكينا » .

وروى سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر قال: كنت امرأ أصيب من النساء ما لم يصب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئًا فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينما هي تحدثني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث أن وقعت عليها فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: أنتَ بذاك، فقلت: أنا بذاك - قاله ثلاثا - قلت: أنا بذاك وها أنا ذَا فأمضِ في حكم الله، فإني صابر لذلك، قال: فأَعْتِقْ رقبةً. فضربت صفحةَ عنقي بيدي فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أملك غيرها قال: فصم شهرين متتابعين، فقلت: يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا من الصيام؟ قال: فأطعم ستين مسكينًا قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه [ وحشين ] ما لنا عشاء، قال: اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقًا ستين مسكينًا ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك. قال: فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة، أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي قال: فدفعوها إليه .

( ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) لتصدقوا ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم من الله عز وجل، ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ) يعني ما وصف من الكفارات في الظهار ( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) قال ابن عباس: لمن جحده وكذب به.

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 5 ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 6 )

( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) أي يعادون الله ورسوله ويشاقون ويخالفون أمرهما ( كُبِتُوا ) أذلوا وأخزوا وأهلكوا ( كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنـزلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ) ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ ) حفظ الله أعمالهم ( وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )

 

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 7 ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 8 )

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُون ) قرأ أبو جعفر بالتاء، لتأنيث النجوى، وقرأ الآخرون بالياء لأجل الحائل ( مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ ) أي من سرار ثلاثة، يعني من المسارّة، أي: ما من شيء يناجي به الرجل صاحبيه ( إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ ) بالعلم.

وقيل: معناه ما يكون من متناجين ثلاثة يسارّ، بعضهم بعضًا إلا هو رابعهم بالعلم، يعلم نجواهم ( وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) قرأ يعقوب: « أكثرُ » بالرفع على محل الكلام قبل دخول « مِنْ » ( ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ) نـزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم، يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم، فيحزنون لذلك ويقولون ما نراهم إلا وقد بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قَتْلٌ أو موت أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلما طال ذلك عليهم وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنـزل الله « ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى » أي المناجاة ( ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها ( وَيَتَنَاجَوْن ) قرأ الأعمش وحمزة: « وينتجون » على وزن يفتعلون، وقرأ الآخرون « يتناجون » لقوله: إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهاهم عن النجوى فعصوه ( وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ) وذلك أن اليهود كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ( وَيَقُولُون ) السام عليك. « والسام » : الموت، وهم يوهمونه أنهم يقولون: السلام عليك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فيقول: عليكم، فإذا خرجوا قالوا: ( فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ) يريدون: لو كان نبيا حقا لعذبنا الله بما نقول، قال الله عز وجل: ( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ )

أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أبو أيوب عن ابن أبي مليكة، عن عائشة: « أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: السام عليك قال: وعليكم، فقالت عائشة: السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش، قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيَّ » .

ثم إن الله تعالى: نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود فقال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 9 ) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 10 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ) أي كفعل المنافقين واليهود وقال مقاتل أراد بقوله: « آمنوا » المنافقين أي آمنوا بلسانهم. قال عطاء: يريد الذين آمنوا بزعمهم قال لهم: لا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ( وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) ( إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ ) أي من تزيين الشيطان ( لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) أي إنما يزين لهم ذلك ليحزن المؤمنين ( وَلَيْسَ ) التناجي ( بِضَارِّهِمْ شَيْئًا ) وقيل: ليس الشيطان بضارهم شيئا ( إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ )

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري أخبرنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار أخبرنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري حدثنا عبد الرزاق أخبرنا مَعْمَر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه » .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 11 )

قوله عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا ) الآية قال مقاتل بن حيان: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس منهم يومًا وقد سُبِقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم وسلموا عليه فردَّ عليهم، ثم سلموا على القوم فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فلم يفسحوا لهم فشقَّ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لمن حوله: قم يا فلان وأنت يا فلان، فأقام من المجلس بقدر النفر الذين قاموا بين يديه من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم فأنـزل الله هذه الآية .

وقال الكلبي: نـزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وقد ذكرنا في سورة الحجرات قصته . وقال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنوا بمجلسهم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض .

وقيل: كان ذلك يوم الجمعة، فأنـزل الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا ) أي توسعوا في المجلس، قرأ الحسن وعاصم: « في المجالس » لأن الكل جالس مجلسًا معناه: ليتفسحْ كل رجل في مجلسه. وقرأ الآخرون: « في المجلس » على التوحيد لأن المراد منه مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ( فَافْسَحُوا ) أَوْسِعُوا، يقال: فسح يفسح فسحًا: إذا وسع في المجلس ( يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ) يوسع الله لكم الجنة والمجالس فيها.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يقيمنَّ أحدكم الرجل من مجلسه ثم يخلفه فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا » .

أخبرنا عبد الوهاب بن الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا »

وقال أبو العالية، والقرظي والحسن: هذا في مجالس الحرب ومقاعد القتال، كان الرجل يأتي القوم في الصف فيقول توسعوا فيأبون عليه لحرصهم على القتال ورغبتهم في الشهادة ( وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) قرأ أهل المدينة والشام وعاصم بضم الشين وقرأ الآخرون بكسرهما وهما لغتان أي ارتفعوا قيل: ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسِّعُوا لإخوانكم. وقال عكرمة والضحاك: كان رجال يتثاقلون عن الصلاة إذا نودي لها فأنـزل الله تعالى هذه الآية معناه: إذا نودي للصلاة فانهضوا لها

وقال مجاهد وأكثر المفسرين: معناه: إذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة وإلى الجهاد وإلى مجالس كل خير وحق فقوموا لها ولا تقصروا .

( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِين آمَنُوا مِنْكُمْ ) بطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وقيامهم من مجالسهم وتوسعتهم لإخوانهم ( وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) من المؤمنين بفضل علمهم وسابقتهم « درجات » فأخبر الله عز وجل أن رسوله صلى الله عليه وسلم مصيب فيما أمر وأن أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا وأن النفر من أهل بدر مستحقون لما عوملوا من الإكرام.

( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) قال الحسن: قرأ ابن مسعود هذه الآية وقال: أيها الناس افهموا هذه الآية ولنرغبنَّكم في العلم، فإن الله تعالى يقول: « يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات » المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم درجات.

[ أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي حدثنا الإمام أبو الطيب سهل بن محمد ابن سليمان ] حدثنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله الهروي أخبرنا محمد بن يونس القرشي أخبرنا عبيد الله بن داود، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة، حدثني داود بن جميل عن كثير بن قيس قال: كنت جالسًا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاء رجل فقال: يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما كانت لك حاجة غيره؟ قال: لا قال: ولا جئتَ لتجارة؟ قال: لا قال: ولا جئت إلا رغبة فيه؟ قال: نعم قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضىً لطالب العلم، وإن السموات والأرض والحوت في الماء لتدعو له، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو علي الحسين بن أحمد بن إبراهيم السراج، أخبرنا الحسن ابن يعقوب العدل، حدثنا محمد بن عبد الوهاب الفراء، حدثنا جعفر بن عون أخبرنا عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه، قال: « كلا المجلسين على خير، وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلِّمون الجاهل، فهؤلاء أفضل وإنما بعثت معلمًا ثم جلس فيهم » .

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 12 )

قوله عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) أمام مناجاتكم، قال ابن عباس: وذلك أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثروا حتى شقوا عليه فأراد الله أن يخفف على نبيه ويثبطهم ويردعهم عن ذلك فأمرهم أن يقدموا صدقةً على المناجاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم .

وقال مقاتل بن حيان: نـزلت في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره النبي صلى الله عليه وسلم طول جلوسهم ومناجاتهم، فلما رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئًا وأما أهل الميسرة فضنوا واشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنـزلت الرخصة .

قال مجاهد: نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجِهِ إلا علي رضي الله عنهُ تصدق بدينار وناجاهُ ثم نـزلت الرخصة فكان علي رضي الله عنه يقول: آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي وهي آية المناجاة

وروي عن علي رضي الله عنه قال: لما نـزلت هذه الآية دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما ترى دينارًا؟ قلت: لا يطيقونهُ قال: فكم؟ قلت: حبة أو شعيرة، قال: إنك لزهيد، فنـزلت: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ قال علي رضي الله تعالى عنه: فبي قد خفف الله عن هذه الأمة .

( ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ ) يعني: تقديم الصدقة على المناجاة ( وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يعني الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به معفو عنهم.

أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 13 ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 14 ) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 15 )

( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا ) قال ابن عباس: أبخلتم؟ والمعنى: أخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم ( بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ) ما أمرتم به ( وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) تجاوز عنكم ولم يعاقبكم بترك الصدقة، وقيل « الواو » صلة مجازه: فإن لم تفعلوا تاب الله عليكم ونسخ الصدقة [ قال مقاتل بن حيان : كان ذلك عشر ليال ثم نسخ ] وقال الكلبي: ما كانت إلا ساعة من نهار.

( فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) المفروضة ( وَآتُوا الزَّكَاةَ ) الواجبة ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) نـزلت في المنافقين تولوا اليهود وناصحوهم ونقلوا أسرار المؤمنين إليهم . وأراد بقوله: « غضب الله عليهم » اليهود ( مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) يعني المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاء، ولا من اليهود والكافرين، كما قال: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ( النساء - 143 ) ( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) قال السدي ومقاتل: نـزلت في عبد الله بن نبتل المنافق كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجره إذ قال: يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق العينين فقال النبي صلى الله عليه وسلم « علام تشتمني أنت وأصحابك » ؟ فحلف بالله ما فعل وجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فأنـزل الله عز وجل هذه الآيات، فقال: « ويحلفون على الكذب وهم يعلمون » أنهم كَذَبَة .

( أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُواْ يَعمَلُونَ )

اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 16 ) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 17 ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( 18 ) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 19 ) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ ( 20 ) كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 21 )

( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ ) الكاذبة ( جُنَّة ) يستجنُّون بها من القتل ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم ( فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) صدوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل وأخذ أموالهم ( فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) ( لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ ) يوم القيامة ( أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ ) كاذبين ما كانوا مشركين ( كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) في الدنيا ( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ ) من أيمانهم الكاذبة ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) ( اسْتَحْوَذ ) غلب واستولى ( عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ ) الأسفلين. أي: هم في جملة من يلحقهم الذل في الدنيا والآخرة. ( كَتَبَ اللَّهُ ) قضى الله قضًاء ثابتًا ( لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [ نظيره ] قوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ( الصافات 171- 172 ) قال الزجاج: غلبة الرسل على نوعين: من بعث منهم بالحرب فهو غالب بالحرب، ومن لم يؤمر بالحرب فهو غالب بالحجة.

 

لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 22 )

قوله عز وجل ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) الآية. أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين وأن من كان مؤمنًا لا يوالي من كفر، وإن كان من عشيرته.

قيل: نـزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة وسيأتي في سورة الممتحنة إن شاء الله عز وجل.

وروى مقاتل بن حيان عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال: « ولو كانوا آباءهم » يعني: أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد « أو أبناءهم » يعني أبا بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز وقال: يا رسول الله دعني أكن في الرحلة الأولى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: متعنا بنفسك يا أبا بكر « أو إخوانهم » يعني: مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد « أو عشيرتهم » يعني عمر قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر، وعليا وحمزة وعبيدة قتلوا يوم بدرعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة

( أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ) أثبت التصديق في قلوبهم فهي موقنة مخلصة، وقيل: حكم لهم بالإيمان فذكر القلوب لأنها موضعه ( وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) قواهم بنصر منه. قال الحسن: سمى نصره إياهم روحا لأن أمرهم يحيا به. وقال السدي: يعني بالإيمان. وقال الربيع: يعني بالقرآن وحجته، كما قال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ( الشورى - 52 ) وقيل برحمة منه. وقيل أمدهم بجبريل عليه السلام. ( وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )

 

أعلى