منذ حوالي ساعة
المنافقون في الأمة الإسلامية عيونهم دائمًا على جراحها ومواضع الوهن فيها، وهم بوحي من شياطينهم يهود يتحرَّكون في توظيف الأحداث كي تجري في سياق النيل من الإسلام عامة والسُّنَّة خاصة.
الأحداث كالنصوص لا معنى لها خارج سياقها، فإذا كان للنصوص سياقات تبين مقاصدها وتفصح عن مراميها، فكذلك للأحداث سياقات تدل على نتائجها وتُجلِّي حيثياتها.
فالسياق الذي تقع فيه الأقوال سواء من كلام الله تعالى أو من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله وتقريره، أو حتى من كلام الناس وأفعالهم، هذا السياق بقرائنه المقالية والمقامية هو الحكم على تلك الأمور جميعها، وهو محكوم بالقوانين الشرعية الكلية كتابًا وسنةً وإجماعًا وقياسًا، أو القوانين الشرعية اللغوية من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد ومنطوق ومفهوم وإجمال وبيان؛ لأن الوحي نزل بلسان عربي مبين، وقد نفى سبحانه وتعالى التناقض عن قوانينه الشرعية بقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
والسياق الذي تجري فيه الأحداث هو حكم على وجهتها ومآلاتها، وتحكمه القوانين الإلهية؛ كقانون العدل والظلم، وقانون السببية، وقانون التدافُع، وقانون الابتلاء وغيرها، وقد نفى سبحانه عن تلك القوانين الكونية التناقض بقوله تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3].
والأحداث بقوانينها الكونية، والنصوص بقوانينها الشرعية، تسير جنبًا إلى جنب، لا تتناقض ولا تتضارب؛ لأن خالق الطبيعة واحد، ومُنزِل الشريعة واحد، قال عز من قائل: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
فالأحداث من خلقه، والشريعة من أمره، فكيف يتعارضان ومصدرهما واحد؟!
والسؤال الذي أحاول الإجابة عنه في هذا الموضوع هو: من الذي يستغل الأحداث والنصوص ويجعلها تجري في غير سياقها الحق بل في سياقها المضلل؟
وهذه بعض الأمثلة من السيرة النبوية:
تحوُّل القبلة:
حاول اليهود أن يستغلوا حدث تحوُّل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، ويجعلوه يجري في سياق الحرب على دين الإسلام فيشككون الناس فيه وفي رسوله، ويوهمون الناس من خلال هذا السياق المضلل بتذبذب المنهج النبوي، فقد نقل ابن كثير عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: “كان أوَّل ما نُسِخَ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما هاجرَ إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضْعَةَ عَشَرَ شهرًا، وكان يحب قِبْلة إبراهيم، فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] إلى قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]، فنزل القرآن مقررًا للسياق الحق الذي يجب على المؤمنين أن يقرءوا في تضاعيفه هذا الحدث: قال الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 142، 143]، يقول ابن كثير رحمه الله عن سياق هذا الحدث وهو تجريد الاتباع لله ولرسوله: “يقول تعالى: إنما شرعنا لك -يا محمد -التوجه أولًا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنه إلى الكعبة، ليظهر حالُ من يَتَّبعك ويُطيعك ويستقبل معك حيثما توجهتَ، مِمَّن ينقلب على عَقبَيْه؛ أي: مُرْتَدًّا عن دينه”.
حادثة الإفك:
المنافقون في الأمة الإسلامية عيونهم دائمًا على جراحها ومواضع الوهن فيها، وهم بوحي من شياطينهم يهود يتحرَّكون في توظيف الأحداث كي تجري في سياق النيل من الإسلام عامة والسُّنَّة خاصة.
وحادثة الإفك التي بدأت من فعل عفوي ناتج عن تخلُّف فتاة عفيفة عن الرَّكْب بسبب نومها، فأدركها رجل عاقل فاضل، فجاء يقود بها بعيرها حتى لحقت بزوجها ورَكْبه، هذه قصة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها في هذا الحدث الذي جعله المنافقون وعلى رأسهم عبدالله بن أبي بن سلول، والصفيُّون اليوم، جعلوه يجري في السياق المضلل: سياق الطعن في عرض النبي صلى الله عليه وسلم والتشكيك في صدقه، وزعزعة الثقة بدعوته؛ فجاء التنزيل بعد أن طال ليل هذا السياق المضلل الذي صنعه المنافقون وتدثروا به وقرءوا الحدث من خلاله، جاء التنزيل ليضع الحدث في سياقه الحقيقي، سياق الابتلاء والتمحيص لصاحب الدعوة…سياق (ليميز الخبيث من الطيب)، هذا السياق هو الذي قرأ فيه المؤمنون الحدث.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور: 11 – 20].
ومثال آخر لصناعة المنافقين للسياق المضلل في الأحداث، والسير به في ضرب وحدة المسلمين، وتفريق صَفِّهم، والإطاحة برموزهم من العلماء الربانيين، والدعاة المصلحين:
ما أخرجه البخاري ومسلم، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقيمًا على المريسيع، ووردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أجير يقال له (جهجاه الغفاري) فازدحم هو و(سنان بن وبر الجهني) على الماء فاقتتلا، فصرخ (الجهني): يا معشر الأنصار، وصرخ (جهجاه): يا معشر المهاجرين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة»، وبلغ عبدالله بن أُبيٍّ ذلك، فغضب، وعنده رهْطٌ من قومه فيهم (زيد بن أرقم) غلام حدث، فقال: «أوَقَدْ فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، ووالله ما أعُدُّنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمِّنْ كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم؟! أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم…»؛ الحديث.
إنه السياق المضلل الذي يتدثر فيه أهل النفاق عند حلول الفتن والأحداث، ولكن السياق الحق يكشف السياق الباطل، فيدمغه فإذا هو زاهق، يقول الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 9 – 16]، والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
________________________________________________________
الكاتب: د. سعد بن مقبل الحريري العنزي
Source link