منذ حوالي ساعة
“المقصود بتدبر القرآن هو الفهم لِما يُتلى من القرآن مع حضور القلب، وخشوع الجوارح للعمل بمقتضاه”
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف: 1، 2]، والصلاة والسلام على مَن بعثه الله إلى الأميين رسولًا؛ {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]، صلى الله عليه وعلى آله حاملين وسلم، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، وصحابته الكرام، وتابعيهم بإحسان الذين شملهم الرضوان، ووُعِدوا بالخلود في الجنان؛ في قول عظيم الشأن: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
الوصية بالتقوى:
عباد الله: إنَّ من معالم تجديد هذا الدين، ومن دلائل انتشار الصحوة المباركة، ومن أجلِّ إنجازاتها – العودةَ إلى القرآن تلاوة وحفظًا وإحياءً للقراءات القرآنية، وعلوم القرآن المختلفة، والفرق شاسع بين ما نحن عليه اليوم، وبين ما كان عليه الناس قبل ربع قرن، غير أن واجبًا عظيمًا من واجبات المسلمين اتجاه القرآن لم يتحقق إلى الآن بالشكل المطلوب؛ ذلك الواجب هو تدبر القرآن، الذي حث عليه القرآن بأساليبَ كثيرة من الترغيب والترهيب، والأمر به والزجر عن تركه؛ فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال عز ذكره: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، ووصف أهل خشيته العلماء به بقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 – 109]، كما وصف أهل النفاق والجهل المعرضين عن تدبر القرآن؛ بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16]، إنَّ هذه الآيات بترغيبها وترهيبها وتوصيفها لَتجعل المؤمن حريصًا كل الحرص على تدبر كلام ربه، وتفهُّم هذا القرآن العظيم، الذي جعله الله للناس نورًا وروحًا وهدًى وشفاء، وجعله مصدرَ العزة والتمكين والسعادة في الدنيا والآخرة.
والمقصود بتدبر القرآن هو الفهم لِما يُتلى من القرآن مع حضور القلب، وخشوع الجوارح للعمل بمقتضاه، فالتدبر المطلوب يشمل:
1 – معرفة معاني الألفاظ وما يُراد منها.
2 – تأمُّل ما تدل عليه الآية والآيات مما يُفهم من السياق وتركيب الجمل.
3 – اعتبار القلب بحججه، وتحرك القلب ببشائره وزواجره.
4 – اليقين بأخباره والخضوع لتعاليمه.
والغاية من التدبر هي تأمُّل هذا الكتاب العظيم، وتذوُّق حلاوته، والسياحة في رياض معارفه وعلومه، والاطلاع على هَدْيِهِ وحكمته وعدله، وتوجيهاته السديدة، وإعجازاته التي تحدَّى الله بها العالمين جميعًا، والذي لا يزال يتجدد، ويُستدَل على ذلك بأنه من عند الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ويترتب على ذلك الثقة الكاملة به، والاعتماد الكامل عليه، والتحاكم الطوعي إليه؛ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
إننا لَنزعم جميعًا أن القرآن دستور حياتنا عقيدة وعبادة، وخلقًا وسلوكًا وتعاملًا، ونحن غير مستوعبين له، نقرؤه غير آبِهين بفَهمه، وكأننا غير مَعنيِّين بالعمل به، إنَّ ذلك هو الحائل بيننا وبين الاستضاءة بنور القرآن، وذلك هو الفارق بيننا وبين الجيل القرآني الفريد، الذي أخرجه الله بهذا القرآن من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن رعاية الإبل والغنم إلى قيادة العلم والأمم، جيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تدبَّروا القرآن حق تدبره، وفهِموه غاية الفهم، وعملوا به على أكمل الوجوه، وامتزج القرآن بأرواحهم، بل بلحمهم ودمائهم، حتى أضحَوا – كما وصفهم كثير من الدارسين – قرآنًا يمشي على وجه الأرض؛ وذلك لِحُسْنِ أخذهم للقرآن؛ فقد كانوا لا يتجاوزون العشر الآيات حتى يحفظوها، ويفهموا معانيها، ويعملوا بها، فأخذوا القرآن تلاوة وفهمًا وعملًا؛ كما قال قائلهم: “فتعلمنا العلم والعمل جميعًا”.
وهذا بعكس الذين لم يكن حظهم من القرآن إلا حفظ آياته وتلاوة ألفاظه دون فَهمٍ؛ فإن ذلك النوع من الناس كانوا من أعظم الفتن والمحن على أهل الإسلام؛ قال صلى الله عليه وسلم في وصف الخوارج: «يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سُفهاء الأحلام، تحقِرون صلاتكم عند صلاتهم، وصيامكم عند صيامهم، يقولون مِن قول خير البرية، يتلون القرآن لا يجاوز تَرَاقِيَهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم، يقتلون أهل الإسلام ويَدَعُون أهل الأوثان»[1]، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله:
نخلص أن كلًّا منا مطالب بـ:
1- المداومة على القرآن تلاوة وحفظًا قدر الطاقة، دون تهاون أو تفريط.
2- أن يتدبر ما يقرأ، ويفهم معانيه، ويسأل عما أُشكل عليه منه، أو يتخذ له كتاب تفسير مختصر يبين معاني الكلمات والمعاني العامة للآيات؛ مثل تفسير السعدي، وزبدة التفسير اختصار تفسير الشوكاني، ونحوها.
3- أن يستحضر عظمة هذا القرآن في صدره، وجلالة قدره، وأنه مصدر كل خير للدنيا والآخرة.
4- أن يصدق أخباره تصديقًا جازمًا، ويثِق بتحقيق وعده ثقة مطلقة.
5- أن يلتزم التزامًا صارمًا للعمل بأوامره ونواهيه، دون أن يتخير فيها، أو ينتقي منها ما يريد.
6- أن يعلم أن المبيِّن الحقيقي للقرآن هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعمل على معرفتها، والعمل بها، وربطها بالقرآن.
7- أن يربط نفسه ربطًا محكمًا بالقرآن والسنة، ويحتكم إليهما في جميع شؤونه؛ قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
واعلموا أن القرآن والسنة قد اشتملا على كل ما يصلح البشرية في دينها ودنياها؛ قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]؛ ولذلك لا نأخذ عقيدة ولا عبادة من أي مصدر كان غير الكتاب والسنة، ولا يجوز سنُّ أي قانون يحكم به المسلمون من غير الكتاب والسنة؛ قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].
[1] هذا مجموع من عدة أحاديث رويت في الصحيحين والسنن وغيرهما جمعها شيخنا بلفظ واحد.
Source link