منذ حوالي ساعة
“القلوب ظُرُوف: فقلب مملوء إيمانًا، فعلامته الشَّفَقَة على جميع المسلمين، والاهتمام بما يهمُّهم، ومعاونتهم على أن يعود صلاحه إليهم، وقلب مملوء نفاقًا، فعلامته الحقد والغلُّ والغشُّ والحسد”
الحمد لله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
ورد في تاريخ دمشق لابن عساكر عن أبي الخير قال: “القلوب ظُرُوف: فقلب مملوء إيمانًا، فعلامته الشَّفَقَة على جميع المسلمين، والاهتمام بما يهمُّهم، ومعاونتهم على أن يعود صلاحه إليهم، وقلب مملوء نفاقًا، فعلامته الحقد والغلُّ والغشُّ والحسد”.
والمؤمن يتميز بالشفقة على الناس، قال جرير:
يُسِرُّ لك البَغْضَاءَ كلُّ مُنَافِقٍ…. كما كلُّ ذِي دِينٍ عليك شَفِيقُ
عندما ينصاع العبد لأوامر الشرع وتتمكن الرحمة من القلب، ستصرف همته إلى إزالة المكروه عن الناس، فيكون عليهم خائفا، ولهم ناصحا، وبهم متلطفا، وهذا هو معنى الشفقة.
من صور الشفقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – رحيما رفيقا، وكان أرحم الناس بالناس، وكان أرفق الناس بالناس، وكان شديد الشفقة على الخلق. كيف لا وهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة.
وقد ورد في سيرته وسنته من المواقف الكثيرة العظيمة ما يدل على ذلك، ومنها:
– عن النُّعمان بن بَشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مَثَلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تَدَاعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى» (متفق عليه).
قال ابن حبان: “وفيه مَثَّل النَّبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بما يجب أن يكونوا عليه من الشَّفَقَة والرَّأفة”.
– وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: أَتَيْنَا النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ونَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فأقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَظَنَّ أنَّا اشْتَقْنَا أهْلَنَا، وسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا في أهْلِنَا، فأخْبَرْنَاهُ، وكانَ رَفِيقًا رَحِيمًا، فَقَالَ: «ارْجِعُوا إلى أهْلِيكُمْ، فَعَلِّمُوهُمْ ومُرُوهُمْ، وصَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، وإذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أحَدُكُمْ، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أكْبَرُكُمْ» (متفق عليه).
وهكذا نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي حاجة هؤلاء الشباب إلى أهليهم، فتحمله شفقته ورحمته على الإذن لهم بالرجوع إليهم وتعليمهم.
– وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمَّ أحدُكم النَّاسَ فليُخَفِّف؛ فإنَّ فيهم الصَّغيرَ والكبيرَ والضَّعيف والمريض، فإذا صلَّى وحْدَه، فليصل كيف شاء» (رواه البخاري).
وهذا مثال آخر من أمثلة شفقته بأمته ورحمته بالمؤمنين: أنَّه إذا كان الإنسان إمامًا لهم، فإنَّه لا ينبغي له أن يُطِيل عليهم في الصَّلاة، بل ينبغي أن يراعي حال المأمومين فيخفف عليهم، والمراد بالتَّخفيف: ما وافق سُنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو التَّخفيف، وليس المراد بالتَّخفيف ما وَافَق أهواء النَّاس.
– ومن ذلك أيضا عدولُه عن نية الإطالة في الصلاة بعد دخولها شفقةً على الطفل الباكي وتأثرأمه، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي قَتَادَةَ — رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنِّي لَأَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كراهية أن أشق على أمه» (متفق عليه). وفي رواية: «مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ».
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يلمسون ذلك، في الصحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَال: “مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً ولَا أَتَمَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ — صلى اللهُ عليه وسلَّم — وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ وَرَاءَهُ، فَيُخَفِّفُ”. وفي رواية “فَيَقْرَأُ بِالسُّورَةِ الْقَصِيرَةِ” “مَخَافَةَ أَنْ يَشُقَّ عَلَى أُمِّه”.
– ومن ذلك عدم خروجه لصلاة القيام كل ليلة في جماعة في رمضان حتى لا تفرض عليهم، فعند النسائي عَنْ عَائِشَةَ، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ، وَكَثُرَ النَّاسُ ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: «قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» (رواه البخاري)، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ.
– وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: لما جاء نعي جعفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فقد أتاهم ما يشغلهم، أو أمر يشغلهم» (رواه الترمذي).
قال وليُّ الله الدَّهْلوي: “هذا نهاية الشَّفَقَة بأهل المصيبة، وحفظهم من أن يتضوَّروا بالجوع”.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتواصون بالشفقة على المسلمين، فعن أسلم أنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه استعمل مولى له -يُدْعى هُنَيًّا- على الحِمَى، فقال: “يا هُني، اضْمُم جناحك عن المسلمين، واتَّق دعوة المظلوم؛ فإنَّ دعوة المظلوم مستجابة”.
قال العيني: “قوله: اضْمُم جناحك، ضَمُّ الجَناح: كناية عن الرَّحمة والشَّفَقَة، وحاصل المعنى: كُفَّ يدك عن ظلم المسلمين”.
– وعن عبد الملك بن حميد، قال: كنَّا مع عبد الملك بن صالح بدمشق، فأصاب كتابًا في ديوان دمشق: “بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، من عبد الله بن عبَّاس، إلى معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك، فإنِّي أحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، عصمنا الله وإيَّاك بالتَّقوى… أمَّا بعد، فإنَّك من ذوي النُّهى من قريش، وأهل الحلم والخُلُق الجميل منها، فليَصْدر رأيك بما فيه النَّظر لنفسك، والتَّقيَّة على دينك، والشَّفَقَة على الإسلام وأهله، فإنَّه خير لك، وأوفر لحظِّك في دنياك وآخرتك”.
– وقال الجنيد -عندما سُئل عن الشَّفَقَة على الخَلْق ما هي؟ قال: “تعطيهم من نفسك ما يطلبون، ولا تحمِّلهم ما لا يطيقون، ولا تخاطبهم بما لا يعلمون”.
من الوسائل المعينة على اكتساب الشَّفَقَة:
1- ترك الشِّبَع:
قال أبو سليمان الدَّاراني: “من شَبِع دخل عليه ستُّ آفات: فَقَد حلاوة المنَاجاة، وتعذَّر حفظ الحِكْمة، وحرمان الشَّفَقَة على الخَلْق؛ لأنَّه إذا شَبِع، ظنَّ أنَّ الخَلْق كلَّهم شِبَاعٌ، وثُقْل العبادة، وزيادة الشَّهوات، وأنَّ سائر المؤمنين يدورون حول المساجد، والشِّباع يدورون حول المزابل”.
2- اجتناب الحسد:
قال أبو عبد الرَّحمن السُّلمي: “الحسد عدوُّ نعمة الله، وإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحاسدوا»، وحسد المسلمين من قلَّة الشَّفَقَة عليهم”.
3- مخالطة الضُّعفاء والمساكين وذوي الحاجة:
فإنَّه ممَّا يُــرَقِّق القلب، ويدعو إلى الرَّحمة والشَّفَقَة بهؤلاء وغيرهم.
4- مَسْحُ رأس اليتيم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنَّ رجلًا شكا إلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قسوةَ قلبِه فقال: «امسَحْ رأسَ اليتيمِ وأطعِمِ المسكينَ» (أخرجه أحمد).
ونختم بقول الشاعر:
ارحــمْ أخـيَّ عبـادَ اللهِ كلَّـهــم…. وانظرْ إِليهمْ بعينِ اللُّطفِ والشَّفَقَه
وَقِّرْ كبيرَهمُ وارحَمْ صغيرَهـمُ…. وراعِ في كلِّ خلقٍ وجْهَ مَن خَلَقَـه
Source link