وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى – خالد سعد النجار

المراد من المواعدة هنا أمر الله تعالى موسى أن ينقطع أربعين ليلة لمناجاته، وإطلاق الوعد على هذا الأمر من حيث إن ذلك تشريف لموسى ووعد له بكلام الله وبإعطاء الشريعة

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) }

{{وَإِذْ}} واذكروا إذ {{وَاعَدْنَا}} المراد من المواعدة هنا أمر الله تعالى موسى أن ينقطع أربعين ليلة لمناجاته، وإطلاق الوعد على هذا الأمر من حيث إن ذلك تشريف لموسى ووعد له بكلام الله وبإعطاء الشريعة.

وهذه المواعدة للتكلم، أو لإنزال التوراة. قال المهدوي: “وكان ذلك بعد أن جاوز البحر، وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله، فخرج إلى الطور في سبعين رجلاً من خيار بني إسرائيل، وصعد الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة، فقعدوا فيما ذكره المفسرون عشرين يوماً وعشرة ليال، فقالوا: قد أخلفنا موعده”.

{{مُوسَى}} هو رسول الله تعالى إلى بني إسرائيل، وصاحب شريعة التوراة، وهو موسى بن عمران، ولم يذكر اسم جده، ولكن الذي جاء في التوراة أنه هو وأخوه هارون من سبط لاوى بن يعقوب.

ولد بمصر، وأمه تسمى “يوحانذ” وهي أيضا من سبط لاوى وكان زوجها قد توفي حين ولدت موسى، وأخته كان اسمها مريم، وتبنته امرأة فرعون وسمته موشى، قيل إنه مركب من كلمة «مو» بمعنى الماء، وكلمة «شى» بِمَعْنَى الْمُنْقِذِ أو الشجر، وقد صارت في العربية موسى، والأظهر أن هذا الاسم مركب من اللغة العبرية لا من القبطية، فلعله كان له اسم آخر في قصر فرعون وأنه غير اسمه بعد ذلك.

{{أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}} بأيامها، وهي ذو القِعْدةِ وعَشْرٌ من ذي الحِجَّة. وكان ذلك بعد خلاصهم من قوم فرعون وإنجائهم من البحر.

ولم يبين هنا هل واعده إياها مجتمعة أو متفرقة؟ ولكنه بين في سورة الأعراف أنها متفرقة، وأنه واعده أولا ثلاثين، ثم أتمها بعشر، وذلك في قوله تعالى: {{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}} [الأعراف:142].

وتفسير الأربعين بالليلة دون اليوم، لأن شهور العرب وضعت على سير القمر, والهلال إنما يهل بالليل، فكان أوّل الشهر ليلة الهلال، وصارت الأيام تبعاً لليالي، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء، وخلق الليل قبل النهار، قال تعالى: {{وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} } [يس:37]

{{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ}} إلها، وكان من ذهب.. وهو المقصود، وأما ما ذكر قبله فهو تمهيد وتأسيس لبنائه وتهويل لذلك الجرم وإظهارا لسعة عفو الله تعالى وحلمه عنهم. وتوسيط التذكير بالعفو عن هذه السيئة بين ذكر النعم المذكورة مراعاة لترتيب حصولها في الوجود ليحصل غرضان غرض التذكير وغرض عرض تاريخ الشريعة.

{{مِن بَعْدِهِ}} أي بعد غيبته في الطور.. وفائدة ذكر {{من بعده}} لزيادة التشنيع بأنهم كانوا جديرين بانتظارهم الشريعة التي تزيدهم كمالا لا بالنكوص على أعقابهم عما كانوا عليه من التوحيد والانغماس في نعم الله تعالى، وبأنهم كانوا جديرين بالوفاء لموسى فلا يحدثوا ما أحدثوا في مغيبه بعد أن رأوا معجزته وبعد أن نهاهم عن هاته العبادة لما قالوا له: {{اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} } [الأعراف:138]

وفائدة ذكر { {مِن}} للإشارة إلى أن الاتخاذ ابتدأ من أول أزمان بعدية مغيب موسى عليه السلام وهذه أيضا حالة غريبة لأن شأن التغير عن العهد أن يكون بعد طول المغيب على أنه ضعف في العهد.

{وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} أي لا شبهة لكم في اتخاذه.. شتان بين أمة وأمة, فأمة موسى -عليه السلام- غاب نبيهم أربعين يوماً, فاتخذوا العجل معبودهم, ورضوا بأن يكون لهم بمثل العجل معبوداً {{فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}} [طه:81] وأمة محمد المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مضى من وقت نبيهم سنون كثيرة فلو سمعوا واحداً يذكر في وصف معبودهم ما يوجب تشبيهاً لما أبقوا على حُشاشتهم [بقية الروح أو رمق الحياة], ولو كان في ذلك ذهاب أرواحهم.

{{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}} أتى بها؛ لأن العفو إنما حصل حين تابوا إلى الله، وقتلوا أنفسهم.

وهو تذكير لهم بنعمة عفو الله عن جرمهم العظيم بعبادة غيره وذلك مما فعله سلفهم، فإسناد تلك الأفعال إلى ضمير المخاطبين باعتبار ما عطف عليه من قوله: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} فإن العفو عن الآباء منة عليهم وعلى أبنائهم يجب على الأبناء الشكر عليه.

{{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}} رجاء لحصول شكركم، وعدل عن لام التعليل -لتشكرون- إيماء إلى أن شكرهم مع ذلك أمر يتطرقه احتمال التخلف، فذكر حرف الرجاء دون حرف التعليل من بديع البلاغة، فتفسير لعل بمعنى لكي يفيد هذه الخصوصية.

والمعنى: أي لكي تشكروا عفوي عنكم وحسن صنيعي إليكم, وأصل الشكر هو تصور النعمة وإظهارها, ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها, والشكر على ثلاثة أضرب:

شكر القلب وهو تصور النعمة, وشكر اللسان وهو الثناء على النعمة, وشكر سائر الجوارح في السر والعلانية. ولذلك قال تعالى: {{اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} } [سبأ:13]

** قيل الشكر لمن فوقك بالطاعة والثناء, ولنظير له بالمكافأة, ولمن دونه بالإحسان والإفضال.

** وقال الشبلي: الشكر التواضع، والمحافظة على الحسنات، ومخالفة الشهوات، وبذل الطاعات، ومراقبة جبار الأرض والسماوات.

قال سهل بن عبد الله: الشكر الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية.

وقال الفضيل: شكر كل نعمة أن لا يعصى الله بعدها بتلك النعمة.

وعن الجنيد قال: كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين وببن يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي: يا غلام ما الشكر؟ فقلت: ألا يعصى الله بنعمه. فقال لي: أخشى أن يكون حظك من الله لسانك. قال الجنيد: فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها السري لي.

** وقيل الشكر العجز عن الشكر.. قال الجنيد: حقيقة الشكر العجز عن الشكر.

وقال داود عليه السلام – سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن الشكر شكراً، كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة.

وقال موسى عليه السلام: كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك لا يجازى بها عملي كله، فأوحى الله إليه يا موسى الآن شكرتني.

** وقيل شكر النعمة أن لا يراها ألبتة, ويرى المنعم.

{{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}} التوراة، فهذا تذكير بنعمة نزول الشريعة التي بها صلاح أمورهم وانتظام حياتهم وتأليف جماعتهم مع الإشارة إلى تمام النعمة، وهم يعدونها شعار مجدهم وشرفهم لسعة الشريعة المنزلة لهم حتى كانت كتابا فكانوا به أهل كتاب أي أهل علم تشريع.

وفيه فضيلة التوراة؛ لأنه أُطلق عليها اسم {{الكتاب}} ؛ و “أل” هذه للعهد الذهني؛ فدل هذا على أنها معروفة لدى بني إسرائيل، وأنه إذا أُطلق الكتاب عندهم فهو التوراة؛ أيضاً سماها الله تعالى الفرقان، كما سمى القرآن الفرقان؛ لأن كلا الكتابين أعظم الكتب، وأهداهما؛ لقوله تعالى: {{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}} [القصص:49] يعني: التوراة والقرآن؛ ودل هذا على أن التوراة مشاركة للقرآن في كونها فرقاناً؛ ولهذا كانت عمدة الأنبياء من بني إسرائيل، كما قال تعالى: {{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء}} [المائدة:44]

{{وَالْفُرْقَانَ}} مشتق من «الْفَرْقِ» وهو الفصل، استعير لتمييز الحق من الباطل فهو وصف لغوي للتفرقة، فقد يطلق على كتاب الشريعة، وعلى المعجزة، وعلى نصر الحق على الباطل، وعلى الحجة القائمة على الحق وعلى ذلك جاءت آيات:

** {{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}} [الفرقان:1] هو القرآن فذكره باسمين تأكيداً. فالتوراة أيضا لها صفتان: كونها كتاباً منزلاً, وكونها فرقاناً تفرق بين الحق والباطل.

كما قال: {{وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}} [آل عمران:4] عطفا على {{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}} [آل عمران:3]

** وقوله: {{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ}} [الأنبياء:48] أراد المعجزات لأن هارون لم يؤت وحيا.

** وقوله: { { وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} } [لأنفال:41] يعني يوم النصر يوم بدر، فالفرقان هنا النصر الذي فرَّق الله به بين موسى وفرعون، حتى أنجى موسى وقومَهُ، وأغرق فرعون وقومهُ.

{{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}} هو محل المنة لأن إتيان الشريعة لو لم يكن لاهتدائهم وكان قاصرا على عمل موسى به لم يكن فيه نعمة عليهم.

 

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *