منذ حوالي ساعة
تصحيح مفهوم الانتصار والخسارة: فالخسارة الحقيقية ليست في إزهاق نفوس المؤمنين، وإنما الخسارة الحقيقية أن ترتد عن دينك، وأن تنكص على عقبيك، وأن تتخلى عن مبادئك، أو تتنازل عن الحق، أو تهادن الباطل.
قصة أصحاب الأخدود هي قصة ظلم تتكرر في تاريخ الدعوات، وهي في ذات الوقت قصة فداء وتضحية في سبيل الدين تسطر بدماء الشهداء، ونور يضيء الدرب للمؤمنين، ولعنة تصب على الكافرين أو الظالمين الغاشمين، وتاريخ ناصع لا يكذب عن طبيعة المعركة بين المؤمنين والكافرين، وبين الطغاة والدعاة، وبين البغاة والهداة.
ذكرها القرآن الكريم ونوه عليها في سورة البروج: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [1] وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ [2] وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [3] قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ [4] النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ [5] إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ [6] وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [7] وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [8] الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [9] إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [10] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [11] إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [12]} [البروج 1ـ12].
وبين النبي صلى الله عليه وسلم فصولها فيما رواه مسلم وأحمد وغيرهما فقال: «كان ملكٌ فيمن كان قبلكم وكان لهُ ساحرٌ، فلما كبرَ قال للملكِ: إني قد كبرتُ، فابعث إليَّ غلامًا أُعلِّمُه السحرَ، فبعث إليهِ غلامًا يُعلِّمُه فكان في طريقِه، إذا سلك، راهبٌ. فقعد إليهِ وسمع كلامَه فأعجبَه. فكان إذا أتى الساحرَ مرَّ بالراهبِ وقعد إليهِ. فإذا أتى الساحرَ ضربَه. فشكا ذلك إلى الراهبِ. فقال: إذا خشيتَ الساحرَ فقل: حبسني أهلي. وإذا خشيتَ أهلك فقل: حبسني الساحرُ. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابةٍ عظيمةٍ قد حبستِ الناسَ. فقال: اليومَ أعلمُ آلساحرُ أفضلُ أم الراهبُ أفضلُ؟ فأخذ حجرًا فقال: اللهم إن كان أمرُ الراهبِ أحبُّ إليك من أمرِ الساحرِ فاقتل هذهِ الدابةَ حتى يمضي الناسُ، فرماها فقتلها ومضى الناسُ، فأتى الراهبَ فأخبرَه فقال لهُ الراهبُ: أي بنيَّ! أنت اليوم أفضلُ مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستُبتلى فإن ابتُليتَ فلا تَدُلَّ عليَّ. وكان الغلامُ يُبرئُ الأكمهَ والأبرصَ ويُداوي الناسَ من سائرِ الأدواءِ، فسمع جليسٌ للملكِ كان قد عمي فأتاهُ بهدايا كثيرةٍ فقال: ما ههنا لكَ أجمعُ إن أنتَ شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي اللهُ. فإن أنت آمنتَ باللهِ دعوتُ اللهَ فشفاكَ. فآمنَ باللهِ فشفاهُ اللهُ. فأتى الملك فجلس إليهِ كما كان يجلسُ. فقال لهُ الملكُ: من ردَّ عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك ربٌّ غيري؟ قال: ربي وربك اللهُ. فأخذَه فلم يزل يُعذبْه حتى دَلَّ على الغلامِ. فجئَ بالغلامِ، فقال لهُ الملكُ: أي بنيَّ! قد بلغ من سحركَ ما تُبرئُ الأكمهَ والأبرصَ وتفعلُ وتفعلُ؟ فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي اللهُ. فأخذَه فلم يزل يعذبْه حتى دلَّ على الراهبِ، فجئ بالراهبِ، فقيل لهُ: ارجع عن دينك. فأبى. فدعا بالمئشارِ فوُضع المئشارُ على مفرقِ رأسِه فشقَّه حتى وقع شِقَّاه. ثم جئ بجليسِ الملكِ فقيل لهُ: ارجع عن دينك. فأبى. فوُضعَ المئشارُ في مفرقِ رأسِه، فشقَّهُ بهِ حتى وقع شِقَّاهُ. ثم جئ بالغلامِ فقيل لهُ: ارجع عن دينك. فأبى. فدفعَه إلى نفرٍ من أصحابِه فقال: اذهبوا بهِ إلى جبلِ كذا وكذا. فاصعدوا بهِ الجبلَ فإذا بلغتم ذروتَه، فإن رجع عن دينِه وإلا فاطرحوهُ. فذهبوا بهِ فصعدوا بهِ الجبلَ . فقال : اللهم ! اكفنيهم بما شئتَ. فرجف بهم الجبلُ فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك. فقال لهُ الملكُ ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم اللهُ. فدفعَه إلى نفرٍ من أصحابِه فقال: اذهبوا بهِ فاحملوهُ في قرقورٍ، فتوسَّطوا بهِ البحرَ فإن رجع عن دينِه وإلا فاقذفوهُ. فذهبوا بهِ فقال: اللهم اكفنيهم بما شئتَ. فانكفأت بهم السفينةُ فغرقوا وجاء يمشي إلى الملكِ. فقال لهُ الملكُ: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم اللهُ. فقال للملكِ: إنك لستَ بقاتلي حتى تفعلَ ما آمرك بهِ. قال: وما هو؟ قال: تجمعُ الناسَ في صعيدٍ واحدٍ وتُصلبني على جذعٍ. ثم خذ سهمًا من كنانتي ثم ضعِ السهمَ في كبدِ القوسِ ثم قل: باسمِ اللهِ ربِّ الغلامِ ثم ارمني. فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناسَ في صعيدٍ واحدٍ، وصلبَه على جذعٍ ثم أخذ سهمًا من كنانتِه ثم وضع السهمَ في كبدِ القوسِ ثم قال: باسمِ الله ربِّ الغلامِ ثم رماهُ فوقع السهمُ في صدغِه، فوضع يدَه في صدغِه في موضعِ السهمِ فمات. فقال الناسُ: آمنَّا بربِّ الغلامِ. آمنَّا بربِّ الغلامِ. آمنَّا بربِّ الغلامِ. فأتى الملكُ فقيل لهُ : أرأيتَ ما كنت تحذرُ ؟ قد، واللهِ نزل بك حذرك، قد آمنَ الناسُ. فأمر بالأخدودِ في أفواهِ السككِ فخُدَّت، وأُضرمَ النيرانُ، وقال: من لم يرجع عن دينِه فأحموهُ فيها. أو قيل له: اقتحم. ففعلوا حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها فتقاعست أن تقعَ فيها فقال لها الغلامُ: يا أمه! اصبري فإنكِ على الحقِّ».
إنها قصة تحمل في ثناياها معاني عظيمة، وفوائد جليلة، وأفكارا بناءة، لو ذهبت تستقصيها وتتعمق فيها لاستخرجت منها دروسا مهمة في التربية، والثقة بالله، وتصحيح كثير من الفاهيم الخاطئة، وتجلية الحقائق التي قد تغيب عن النفس أو الغير.. فمن هذه الدروس:
أولا: أهمية تربية الأبناء
فبطل هذه القصة غلام “كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم”: غلام آمن بالرحمن، وواجه الطغيان، وأصر على إبلاغ الحق ـ ولو بذل من أجل ذلك روحه رخيصة ـ حتى آمن على يديه أبناء قومه.. وهذا مما يجعلنا نهتم بتربية أبنائنا وتنشئتهم تنشئة إيمانية صحيحة عسى أن يكون منهم من يجدد لأمتنا دينها، أو يقودها للنصر على أعدائها.
ثانيا: أن لكل فرعون سحرة، وسحرة كل زمان بحسبه:
وهؤلاء السحرة والحواة هم بطانة السوء وشلة المنتفعين الذين يلتفون حول الملك أو الفرعون أو الطاغية، يسبحون بحمده، ويزينون فعله، وينافقونه لأجل تحصيل منافعهم، فهم كالقراد الذي يقتات على دم البعير أو يلتصق بجسم الكلب فإذا ما فارقه مات.. فبقاؤهم مرتهن ببقائه وهلاكهم بهلاكه، فهم يحفظونه ويحفظون نظامه حتى لا يسقط فيسقطون معه.
ثالثا: تعليق نفوس المدعوين بالله وحده:
فقد كان الغلام مما يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي المرضى بإذن الله.. وكان إذا طلب منه أحد الشفاء قال: “أنا لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته لك فشفاك”؛ وذلك حتى لا تتعلق القلوب بغير باريها وخالقها وإلاهها، وحتى لا ننقل الناس من عبادة الفرعون إلى عبادة الكاهن، وننقل الإلهية من الملك إلى الشيخ، وحماية للعقول من أن تنتقل من تعظيم الحق إلى تقديس الشخص، فإذا اهتدى اهتدوا بهداه، وإذا زاغ أو ضل أو زل زاغوا بزيغه وضلوا بضلاله.
رابعا: الثقة التامة بالله تعالى:
فعندما أمر الملك زبانيته بأخذ الغلام وإلقائه من فوق الجبل ـ إن أبى الرجوع عن دينه، فكان دعاؤه: “اللهم اكفنيهم بما شئت وكيف شئت”، ثقة كاملة بالله، واستغناء كامل بقدرته، وتوكل تام عليه وحده.. فليس هناك أسباب إلا الدعاء، وليس ثمة باب مفتوح أمامه إلا باب الغالب الوهاب، فسلم له النفس ووكل إليه الأمر يدبره بقدرته التي لا حدود لها بالطريقة التي يراها سبحانه.
خامسا: الإصرار على تبليغ دعوته:
فقد أنجى الله الغلام من الموت مرتين، وفي كل مرة يعود إلى الملك بنفسه ليبلغه الحق ويدعوه للإيمان، لم يهرب ولم ينسحب، بل أخبره بنفسه عن السبيل الوحيد لقتله، فأسلم نفسه للموت والقتل من أجل إظهار الحق.. إصرار عجيب على الدعوة، وإصرار على إظهار الحق، وإصرار على تحدي الباطل، خصوصا وليس في الميدان غيره، وهي رسالة لرموز الدعوة الكبار، الذين ارتبطت بهم الدعوات وصاروا من سماتها؛ فهؤلاء لا يسعهم ما يسع الصغار والعوام، وهروبهم من الميدان خذلان للدعوة وخسارة كبيرة، وفتنة للمدعوين، ونكوص عن واجب كانوا هم أولى الناس به.
سادسا: تصحيح مفهوم الانتصار والخسارة:
فالخسارة الحقيقية ليست في موت الداعية، وإزهاق الظالمين لنفوس المؤمنين، وإنما الخسارة الحقيقية أن ترتد عن دينك، وأن تنكص على عقبيك، وأن تتخلى عن مبادئك، أو تتنازل عن الحق، أو تهادن الباطل:
كما أن الانتصار ليس في سلامة الأبدان، وصيانة الأموال، وحفظ المراكز، وإنما الفوز الكبير هو أن تعيش إن عشت على الإيمان، وتثبت عند الموت على الإسلام، وأن يؤمن الناس بدعوتك حتى وإن كان سبيل إيمانهم أن يمروا على جثتك.. لقد مات الغلام ولكن آمن القوم، وقتل القوم وحرقوا ولكن كانوا ثابتين على إيمانهم؛ فأدخلهم الله الجنة، وشهد لهم بأنهم فازوا الفوز الكبير {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات…}.
سابعا: الدعوات لا ينصرها إلا التجرد الكامل:
والخروج عن حظوظ النفس، ومكاسب الحياة؛ لقد قال الشيخ لتلميذه: “أنت اليوم خير مني وإنك ستبتلى. فإن ابتليت فلا تدل علي”.. وخُيـِّر التلميذ بين حياته وبين دعوته فاختار بمنتهى الأريحية أن يموت هو لتحيا دعوته، بل هو الذي يطلب الموت بذاته لذاته [إنك لن تسلط على حتى تفعل ما آمرك به… ] ثم يخبره عن الطريقة التي يقتله بها!!!
ثامنا: الابتلاء طريق ممتد وملحمة لا تنتهي:
وسنن الله في الدعوات وفي الخلق عموما لا تتغير ولا تتبدل، فلابد أن يبتلى العباد ليعلم الصادق من الكاذب، وأهل الإيمان من أهل الزيغ والكفران: {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم}،{ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}.
فلسنا أول أمة تعالج الرزايا والبلايا ثم تطالب بالثبات على الحق والمكافحة من أجل إعلاء كلمه الله تعالى: {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}.. وإنما القاعدة أن الابتلاء أول طريق النصر، وآخره الوصول إلى الجنة: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم …}
تاسعا: الكفر ملة واحدة، والظلم أخو الكفر:
وهؤلاء وهؤلاء لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، ولا مانع لديهم من ارتكاب أفظع الجرائم، وابشع صور التنكيل والتعذيب من أجل فتنة المؤمنين وردهم عن دينهم، أو اختيار أقصى صور القتل للتخلص منهم في حال صبرهم على عقيدتهم وعدم مهادنة ومداهنة الظلم..
عاشرا: الإيمان جذوة لا تخمد، وشمس لا تغيب:
متى غربت عن أرض قوم أشرقت في أرض غيرها، وإذا داهم ظلام الليل قوما، فإن ضوء النهار يزيل ظلام الليل عن قوم آخرين ويبقى نور الله لا ينطفئ أبدا.
Source link