قالﷺ: «يا جابر، ما لي أراك منكسرًا» فقال استشهد أبي، وترك عيالًا ودَينًا، قالﷺ: «أفلا أبشِّرك بما لقِيَ الله به أباك – ما كلَّم الله أحدًا قطُّ إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كِفاحًا…وأُنزلت هذه الآية:» {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا}
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: ((لقِيَني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا جابر، ما لي أراك منكسرًا» ؟ قلت: يا رسول الله، استُشهد أبي، وترك عيالًا ودَينًا، قال: «أفلا أبشِّرك بما لقِيَ الله به أباك» ؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: «ما كلَّم الله أحدًا قطُّ إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كِفاحًا، فقال: يا عبدي تمنَّ عليَّ أُعْطِك، قال: يا ربِّ تحييني فأُقْتَل فيك ثانيةً، قال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون؛ قال: وأُنزلت هذه الآية:» {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169][1].
(عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا جابر ما لي أراك منكسرًا» ؟) أي: مهمومًا محزونًا، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم حزنه وانكساره من أسارير وجهه، فلم يشكُ جابر رضي الله عنه حاله للنبي صلى الله عليه وسلم.
فائدة: فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم – مع حمله همَّ الأمة والدعوة – كان يتفقد أصحابه، ويواسيهم، ويطيب خواطرهم، وتلك عبادة عظيمة، تنبئ عن صدق الإيمان وحقيقة الأخوة؛ لأن المؤمن أخو المؤمن يَحُوطه من ورائه، ولأن المؤمنين إخوة يشُدُّ بعضهم بعضًا، والأمر كما قيل: من سار بين الناس جابرًا للخواطر، أدركه الله في جوف المخاطر.
كان عبدالله بن عباس رضي الله عنه يقول: “صاحب المعروف لا يقع، فإن وقع وجد مُتَّكأً”[2].
وقد نُسِيت هذه العبادة، وأُهملت في مجتمعات كثُرت فيها الأنانيات والاهتمام بالذات، والانهماك في الشهوات.
جبر الخواطر ذاك دأب أولي النُّهي *** وترى الجَهول بكسرها يتمتــــعُ
فاجعل لسانك بلسمًا فيه الشفـــــا *** لا مشرطًا يُدمي القلوب ويُوجعُ
(قلت: يا رسول الله استشهد أبي)؛ أي: رزقه الله الشهادة، وذلك يوم أُحُدٍ، وهي الغزوة المعروفة التي قُتل فيها من المسلمين سبعون رجلًا، من بينهم أبو جابر، عبدالله بن حرام، رضي الله عنهما.
فائدة: وفيه بيان قيمة الأب، وأن وجوده في الحياة من أعظم الجَبْرِ، ولا يعرف ذلك إلا مَن فَقَدَ والده، فما أنت إلا بَضعةٌ منه.
الأب هو شمس الحياة، ومبعث الاستقرار، هو ملاذ الأولاد بعد الله، به تقوى قلوبهم، وتزهو نفوسهم، وتحُلُّ الطمأنينة في حياتهم.
الأب هو الكادح من أجل تحقيق حياة آمنة حافلة بالاطمئنان والاستقرار المادي والمعنوي لأولاده.
فاعرفوا لوالدكم قدره، واحذروا عقوقه وإغضابه وحزنه، كيف لا؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك» [3]، كم يتألم المؤمن حين يرى بعض الآباء قد صرَّحوا بالحاجة! مع قدرة الأبناء على الوفاء بها، ولكن مشاغل الحياة أبعدتهم، وقسوة القلوب أنْسَتْهم، حقٌّ على الأبناء أن يفرضوا لآبائهم ما يكفيهم من النفقة ونحوها، دون طلب منهم، أو مسألة، بل لهم المنة بقبولها.
قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23، 24].
(وترك عيالًا ودينًا) والعيال بنات ممن يحتَجْنَ إلى النفقة عليهن، فذاك سبب همِّه، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما يُزِيل همَّه وانكساره، ويسُرُّه.
قال: «أفلا أبشِّرك بما لقِيَ الله به أباك» ؟ أفلا أحمل لك البشرى؟ أفلا أخبرك بما قابل الله به أباك بعد استشهاده من الجزاء والفضل والكرامة؟
فائدة: وفيه فضل التبشير بالخير، وأنه نوع من الإحسان والمواساة، وأنه شأن المؤمن، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يبشروا الناس بالخير؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذًا إلى اليمن فقال: «يَسِّرا ولا تُعَسِّرا، وبَشِّرا ولا تُنَفِّرا» [4].
قال: بلى يا رسول الله، قال: « ما كلَّم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب»؛ كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51]، فمن أفضل ما وقع من فضائل للبعض، أنْ كلَّمهم الله بدون واسطة، مع وجود الحجاب، كما كلَّم موسى من وراء حجاب.
«وأحيا أباك»؛ أي: بعد استشهاده وموته.
إشكال: فإن قيل: إن الشهداء أحياء، فكيف يُحيي الحي؟ والجواب: قيل: إن حياة الشهداء حياة برزخية لا نعلم صفتها على التحقيق، لكن إحياء الله تعالى جابرًا رضي الله عنه وتكليمه إياه، هو الإحياء الذي نعرفه، والتكليم الذي نعرفه، أو أراد بالإحياء زيادة قوة روحه، فشاهد الحق بتلك القوة، وعند الله تعالى العلم.
«فكلمه كِفاحًا»؛ أي: ليس بينه وبين الله رسول ولا حجاب.
فقال: «يا عبدي تمنَّ عليَّ أُعْطِك»؛ أي: اطلب ما تتمناه أحقِّقه لك.
(قال)؛ أي: عبدالله بن حرام والد جابر.
(يا رب تحييني فأقتل فيك ثانيةً)؛ أي: تعيدني إلى الحياة مرةً أخرى، فأقاتل في سبيلك، وإعلاء كلمتك مرةً أخرى.
فائدة: وفي هذه البشرى من النبي صلى الله عليه وسلم لجابر ما يُثبِّت قلبه، ويُزيل انكساره بعد موت أبيه، وما ترك من ديون وبنات في رقبة جابر؛ لأن الله الذي أحيا أباه، وكلمه كفاحًا، هو الذي سيقضي ديونه، ويتولَّى ذريته.
قال الطيبي: “وهذا الجواب أيضًا من الأسلوب الحكيم؛ أي: لا تهتم بشأن أمر دنياه من همِّ عياله وقضاء دينه، فإن الله تعالى يقضي عنه دينه ببركة نبيه، ويلطف بعياله، ولكن أبشرك بما هو فيه من القرب عند الله سبحانه، وما لقيه به من الكرامة والمنحة”[5].
فائدة: ولم يكتفِ صلى الله عليه وسلم بهذا العون المعنويِّ، بل أضاف إليه عونًا حسيًّا؛ فقد روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: ((كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غَزاةٍ، فأبطأ بي جملي وأعيا، فأتى عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «جابر»، فقلت: نعم، قال: «ما شأنك» ؟ قلت: أبطأ عليَّ جملي وأعيا، فتخلَّفت، فنزل يحجُنه بمِحجنه[6]، ثم قال: «اركب»، فركبت، فلقد رأيته أكُفُّه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم…
ثم قال: «أتبيع جملك» ؟ قلت: نعم، فاشتراه مني بأوقية[7]، ثم قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلي، وقدمت بالغداة، فجئنا إلى المسجد فوجدته على باب المسجد، قال: «آلآن قدمت» ؟ قلت: نعم، قال: «فدَعْ جملك، فادخل، فصلِّ ركعتين»، فدخلت فصليت، فأمر بلالًا أن يَزِنَ له أوقيةً، فوزن لي بلال، فأرجح لي في الميزان، فانطلقت حتى وليت، فقال: ادعُ لي جابرًا، قلت: الآن يرد عليَّ الجمل، ولم يكن شيء أبغض إليَّ منه، قال: «خُذْ جملك، ولك ثمنه».
فائدة: ماذا كان بين والد جابر، وبين الله؟
حتى يكلمه الله كِفاحًا ليس بينه وبين الله رسول ولا حجاب.
على قدر المؤونة تأتي من الله الأجور والمعونة، إن مناقب عبدالله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه كثيرة، وفضائله غزيرة، وحسبك ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه:
فقد كانت لعبدالله بن عمرو مواقفُ عظيمة، تدل على فضله وبذله، ونصرته لهذا الدين.
روى ابن حبان في صحيحه من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه في حديث طويل، قال صلى الله عليه وسلم في آخره: «جزى الله الأنصار عنا خيرًا، ولا سيما عبدالله بن عمرو بن حرام، وسعد بن عبادة» [8].
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: ((لما كان يوم أحد، جيء بأبي مُسجًّى[9]، وقد مُثِّل به[10]، قال: فأردت أن أرفع الثوب، فنهاني قومي، ثم أردت أن أرفع الثوب، فنهاني قومي، فرفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمر به فرُفع، فسمع صوت باكية أو صائحة، فقال صلى الله عليه وسلم: «من هذه» ؟ فقالوا: ابنة عمرو، أو أخت عمرو، فقال: «ولِمَ تبكي؟ فما زالت الملائكة تُظِلُّه بأجنحتها حتى رُفِعَ».
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “ومعناه أنه مُكْرم بصنيع الملائكة وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه؛ لأن هذا الجليل القدر الذي تظله الملائكة بأجنحتها لا ينبغي أن يُبكَى عليه، بل يُفرَح له بما صار إليه”[11].
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: لما كان يوم أُحُدٍ أشْرَفَ النبي صلى الله عليه وسلم على الشهداء الذين قُتلوا يومئذٍ، فقال: «زمِّلوهم بدمائهم؛ فإني قد شهدت عليهم»، فكان يُدفَن الرجلان والثلاثة في القبر الواحد ويُسأل: أيهم كان أقرأ للقرآن فيقدمونه، قال جابر: فدُفِنَ أبي وعمي يومئذ في قبر واحد))[12].
وروى البخاري في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه قال: “لما حضر أُحُدٌ دعاني أبي من الليل، فقال: ما أراني إلا مقتولًا في أول من يُقتَل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لا أترك بعدي أعزَّ عليَّ منك، غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن عليَّ دَينًا فاقضِ، واستوصِ بأخواتك خيرًا، فأصبحنا، فكان أول قتيل ودُفِن معه آخر في قبر، ثم لم تَطِبْ نفسي أن أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته هنيةً غير أذنه”.
(قال الرب عز وجل: «إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون»؛ أي: سبق مني الحكم والقضاء أن من مات، لا يرجع إلى الحياة الدنيا مرةً أخرى؛ {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100].
(قال)؛ أي: جابر رضي الله عنه.
(وأنزلت هذه الآية)؛ أي: في شأن الشهداء.
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران: 169، 170])؛ أي: يفرحون بإخوانهم الذين تركوهم أحياءً في الدنيا على منهج الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله؛ لعلمهم بأنهم إذا استشهدوا في سبيل الله مخلصين له، لحِقوا بهم، ونالوا من الكرامة مثل الذي نالوه.
{أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 170])؛ أي: لا خوف مُسلَّط عليهم فيما يستقبلون من أمور الآخرة، ولا يحزنون على ما فاتهم من الدنيا.
فائدة: وفيه فضل الشهادة في سبيل الله؛ فعن مسروق قال: سألنا عبدالله بن مسعود عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، قال: ((أمَا إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طيرٍ خُضْرٍ، لها قناديل معلَّقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلع إليهم ربهم اطَّلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي؟ ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن تَرُدَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتَل في سبيلك مرةً أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكوا))[13].
وعن المقدام بن معديكرب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «للشهيد عند الله ستُّ خِصالٍ: يُغفَر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويُحلَّى حُلَّة الإيمان، ويُزوَّج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانًا من أقاربه» [14].
[1] صحيح سنن الترمذي، وابن ماجه، وأخرجه أحمد، وحسنه محققو المسند.
[2] عيون الأخيار.
[3] رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
[4] رواه مسلم.
[5] مرقاة المفاتيح.
[6] أي: يسوقه بعصاه.
[7] وهي أربعون درهمًا من الفضة، وتعادل أربعة دنانير من الذهب.
[8] صحيح ابن حبان، وانظر الصحيحة.
[9] أي: مغطًّى.
[10] مُثل بالقتيل إذا قطع أطرافه، أو أنفه أو أذنه، ونحو ذلك.
[11] فتح الباري.
[12] وصححه محققو المسند.
[13] رواه مسلم.
[14] صحيح سنن ابن ماجه.
________________________________________________________
الكاتب: د. شريف فوزي سلطان
Source link