اليهودي التائه تحكمه خصلتان؛ أولهما الطمع وحبّ المال، وما يصاحبه من حقد وخداع، وهذا في وقت الرخاء…
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وبعد:
قُبيل حوالي أسبوعين ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كلمةً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ78، تمحورت حول آفاق وآثار التطبيع والسلام مع الدول العربية، ودَوره في تغيير الشرق الأوسط، وشملت الخريطة التي أظهرها نتنياهو مناطق مُلوَّنة باللون الأخضر الداكن للدول التي تربطها اتفاقيات سلام مع إسرائيل، أو تخوض مفاوضات لإبرام اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وضمَّت المناطق المُلوَّنة باللون الأخضر دول: مصر والسودان والإمارات والسعودية والبحرين والأردن.
ولم تشمل الخريطة أيّ ذِكْر لوجود دولة فلسطينية؛ حيث طغى اللون الأزرق، الذي يحمل كلمة إسرائيل، على خريطة الضفة الغربية المحتلة كاملةً، بما فيها قطاع غزة، وهذا يعني في ظنّهم استكمال المرحلة الأولى لإقامة الدولة، وهو ما يعني ابتلاع كامل أرض فلسطين، وتهيئة الأرضية للقفزة الثانية التي يبدو في الظاهر أنها ستكون سهلة وسريعة.
ولذا فإن نتنياهو، والمحيطين به من الزعماء السياسيين، والقادة العسكريين، يعيشون همّهم الخاص؛ وهو البقاء في السلطة، والتمسك بالحصانة السياسية، وكسب الوقت حتى يتم تمرير مشروع إصلاح القضاء، وهو الذي يعني إضعاف سلطة المحكمة العليا، وجعل القضاء تحت هيمنة الحكومة.
واعتراضًا على ذلك، شهدت البلاد كثيرًا من المظاهرات، وامتناع كثير من ضباط الاحتياط عن العودة للخدمة، ورفضهم للأوامر؛ أي: أن الانقسام المجتمعي كبير، وتحلَّق حول نتنياهو مجموعة من المتطرفين الذين أحسّوا أن الوقت حان للقفزة الأخيرة؛ فقلب الدولة هو يهودا والسامرة، وبناء الهكيل يقتضي التحكم الكامل بالقدس والمسجد الأقصى، وبدأت سلسلة من الاقتحامات للمسجد، والاعتداء على المصلين الذي وصل إلى إهانة النساء ونزع لباسهن؛ في طغيانٍ يُعبِّر عن شخصية اليهودي عندما يحسّ بالتفوق والأمان.
ولكن بينما كان اليهود يحتفلون بيوم الغفران (6 أكتوبر)، وأنه يوم مبارك، فحتى حرب 6 أكتوبر 1973م كانت نصرًا عربيًّا منقوصًا؛ لأنه أفرز نصرًا إسرائيليًّا بعقد اتفاقيات سلام مع مصر والأردن، ممَّا مكَّنها من الاستفراد بمنظمة التحرير الفلسطينية وإخراجها من لبنان.
نعم، في هذه الأجواء الاحتفالية، كانت تُوضع اللمسات الأخيرة على أكبر وأروع عملية عسكرية تشنّها المقاومة الفلسطينية بقيادة وتخطيط كتائب عز الدين القسام.
وفي صباح يوم السبت السابع من أكتوبر كان العالم على موعد مع أحداث مفاجئة كشفت عن فشل استخباراتي إسرائيلي وأمريكي، وانهيار البنية العسكرية في غلاف غزة، وخلال ثلاث ساعات كان نتنياهو يستنجد بالغرب، ويتصل ببايدن بصورة متتالية مُلِحًّا بطلب التدخل الأمريكي الذي لم يتأخر؛ فهيكل السلطة بجميع طبقاتها من تنفيذية وتشريعية وإعلامية مخترقة.
وليس أدلّ على ذلك من خطاب بايدن الأول حول الأحداث؛ فقد وقف الرئيس -الذي وصف نفسه سابقًا بالصهيوني المخلص- في الوسط يتكلم بطلاقة وترتيب للأفكار؛ فهو يقرأ من لوحة بعيدة تطرَّق فيها إلى الدعم المطلق لحقّ إسرائيل بالدفاع عن نفسها، والتعهُّد بإرسال الأسلحة والذخيرة التي تحتاجها، وطلب من إسرائيل القيام باللازم، وتحدّث عن إرسال حاملة الطائرات وسفنها المرافقة لشرق المتوسط؛ بدعوى ردع أيّ طرف آخر يريد التدخل.
ولكن بعيدًا عن الخطاب، نُلاحظ أن هناك شخصين يقفان وقفة عسكرية؛ فعلى يساره يقف اليهودي الأوكراني وزير الخارجية توني بلينكن، وعلى يمينه تقف منتصبةً اليهودية الهندية نائبة الرئيس مكملة رسم لوحة تراجيدية لما تعيشه أمريكا التي يسحبها اليهود برضاها إلى حرب يصفونها بالدينية؛ فرئيس الأغلبية الجمهورية يصرّح: (إنها حرب دينية)؛ ولذا فإنه لا يخجل من دعم إسرائيل، وهو ما يُوحي بتأييده لكل ما يُفعَل بالشعب الفلسطيني من جرائم وانتهاكات.
ولم تقف أمريكا عند الدعم العسكري، بل بدأت بحملة لدفع الحلفاء للمشاركة في الحملة، فبينما تواصى نتنياهو مع الرئيس الأوكراني اليهودي زيلنسكي -الذي أعلن تأييده لإسرائيل في مفارقة أنَّ مَن يطالب الآخرين بدعمه لتحرير بلاده من الاحتلال الروسي؛ يؤيد احتلال إسرائيل لفلسطين-، والرئيس الألماني والهولندي والفرنسي والبريطاني، وعملت أمريكا على جمع بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، والخروج ببيان يؤكد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وهو شعار ردّده زعماء العالم بتوجيه أمريكي.
ولا نستغرب من تصريح رئيس وزراء الهند؛ فهو هندوسي متطرّف وحليف لليهود حتى قبل أن يصل للسلطة، ولكنَّ اللافت للنظر أنهم لم يرحموا شيخوخة بابا الفاتيكان، وخصوصية وضعه، وطلبوا منه المشاركة في مظاهرة التأييد العالمية؛ فقدَّم لهم ما يريدون، مع محاولة بائسة لحمل العصا من الوسط؛ فقد قال: «إنه يتابع -بدموع وقلق- ما يحدث في إسرائيل وفلسطين، ويتوقف عند الأعداد الكبيرة من القتلى والجرحى.
أُصلِّي من أجل العائلات التي رأت يوم عيد يتحوّل إلى يوم حداد، أدعو إلى إطلاق سراح فوري للمختطفين. مِن حقّ مَن تعرَّض لهجومٍ أن يدافع عن نفسه، لكنّني قَلِق بشكل كبير من الحصار الكامل الذي يعيش فيه الفلسطينيون في غزة؛ حيث هنالك أيضًا الكثير من الضحايا الأبرياء».
ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ فقد كانت أمريكا تحمل راية منع التدخل لصالح الفلسطينيين، وتدعو الجميع لتأييد إسرائيل بصورة مبالَغ فيها؛ فأحد زعماء الكونجرس يصرّح بأنه يعيش صدمة من عدم مسارعة الصين لتأييد إسرائيل، وتم الطلب حتى من الدول العربية التي وقَّعت اتفاقيات سلام بإدانة عملية حماس في صفاقةٍ وصلفٍ يُذكِّر بما يحصل عندما تجتمع العقليتان الأمريكية واليهودية.
نعود إلى التفاعلات داخل الكيان؛ فمن ناحية نحن أمام نتنياهو الذي ما يزال يعيش هول الصدمة؛ فهو تارة يُرغي ويزبد، ويهدد بتصفية حماس، مع النواح على ما تعرَّضت له إسرائيل، وأن حماس تريد قتلهم.. وبين محاولة النجاة من المتربّصين في الداخل؛ فهو ينفي بشدة أن تكون المخابرات المصرية قد حذَّرته؛ ممَّا قد يُعرّضه للمحاكمة بتهمة الخيانة؛ كما يطالب الإعلام المعارض. ويحاول تكوين حكومة طوارئ تضم زعماء المعارضة لتتحمَّل معه نتائج أيّ فشل، ورغم أن زعيم المعارضة يائير لابيد وافق على الانضمام إلى حكومة الطوارئ، ولكنَّه شدّد على أنه حتى تكون الحكومة فعَّالة يجب ألا تكون الأطراف الأكثر تشددًا وتطرفًا في إسرائيل جزءًا منها.
وهذا الشرط سيجعل نتنياهو يقف وحيدًا، ويكون الشعار (نحن نُصلِح ما أفسدتم)، وهي مهمة ليست سهلة؛ فوزير الدفاع الفاشل كبير في السن، يعيش أوهام الماضي، وواضح عليه التوتر والانفعال؛ نتيجة الإخفاق الأمني، وانكشاف ضعف الأداء العسكري؛ فقد صرَّح بأن الذين أمامه (يقصد الفلسطينيين) حيوانات بشرية، وسيتصرف معهم على هذا الأساس، وهذا يدلّ على فقدان التحكم لديه؛ فالكل يعرف أن اليهود ينظرون إلى غيرهم على أنهم حمير.
ولكنَّ التصريح بهذا في هذه الظروف التي تعتمد فيها دولته المصنوعة على دعم الحيوانات البشرية حول العالم؛ يدل على حقيقة الشخصية اليهودية، وأنها لم تتغير؛ وذلك لأن هذه الصفات بعضها جِبِليّ وبعضها عقوبة إلهية، بل وحتى مجيئهم إلى أرض فلسطين مُقدّمة لقَدَر رباني.
ولذا يجدر بنا في هذه المرحلة: دارسة والتفكر في كل الآيات المختصة باليهود، ولا يسعنا في هذا المقام إلا ذِكْر بعض الآيات التي تناسب المقام؛ مثل قول الله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75].
وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18]، وهو ما يعني إحساسهم بالتفوُّق وخصوصيتهم المُدَّعاة بالقرب من الله، وأنهم يسعهم ما لا يسع غيرهم، ولكنَّ الله -سبحانه وتعالى- وصَفهم بوصفٍ لازمٍ لهم على مرّ العصور، وهو يعني اتصافهم بالجبن والخور، بل إنهم أكثر الناس جُبنًا، فقال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96]؛ فهم أحرص على الحياة حتى من الذين أشركوا.
ومما كتب الله عليهم: الذلة والمسكنة؛ كما قال -سبحانه وتعالى-: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]؛ ومن يشاهد حال المسؤولين الإسرائليين يتيقن الخور والضعف المغلَّف بجبروت مصطنع؛ فهم يعانون من خوف المستقبل، فدعم الآخرين لن يدوم، وبقاؤهم مرهون بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس.
وقد كتب الله عليهم دورات ظهور مرتبط بالإفساد، ولكنَّ النهاية حتمية؛ كما قال الله تعالى في سورة الإسراء: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا 4 فَإذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا 5 ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا 6 إنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: ٤ – ٧].
والذي يهمّنا أنهم في النهاية مهزومون، وأن العاقبة للمتقين؛ فالله أمرنا بقتالهم وحضَّنا على المبادرة بحربهم: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].
وأخيرًا، فإن طوفان الأقصى يحمل رمزية نيّة الدفاع عن الأقصى، وهي همة عالية؛ نسأل الله الرحمة والشهادة لمن قضى، والنصر والتمكين والرفعة لمن بقي.
وأما مَن حملوا السيوف الحديدية، وطلبوا العون والحماية ممن أتى بهم وجمعهم من أصقاع الأرض؛ فنقول لهم: اهربوا إلى بلدانكم خارجين، أو عودوا إلى أرضنا محاربين؛ فإن من يدعمكم كرهًا للمسلمين ينظرون إليكم اليوم كما كانوا ينظرون، فسيبقى اليهودي في نظر الغربيين هو اليهودي التائه.
واليهودي التائه تحكمه خصلتان؛ أولهما الطمع وحبّ المال، وما يصاحبه من حقد وخداع، وهذا في وقت الرخاء. وأما في وقت الشدة والصراع فتسيطر عليه خصلة حب الحياة، وما يصاحبها من الخوف والغدر، وعدم القدرة على التفكير العقلاني؛ ولذا يختفي الذكاء والقدرة على التخطيط البعيد. ونحن في هذا الوقت يحرص اليهود على جلب قوات غربية، وخاصة أمريكية لحمايتهم، والذي لم ينتبهوا له أن وضع اليهود دولتهم تحت الحماية المباشرة يُفقدهم استقلالهم، ويجعلهم تحت طائلة الاستغلال الأمريكي، وتدخل المنطقة في دائرة استقطاب عالمي لإخراج قوات الغرب الصليبي من فلسطين والمنطقة، وقد نشهد إرهاصات حرب كبيرة من المؤكد فيها أن سيناريو الطائرات وعلى إطاراتها يتعلق الشعب المختار ستعود، ولن يبقى بعدها اليهود طويلًا في فلسطين؛ فالغرقد لن يُخفيهم طويلًا.
Source link