خطب الجمعة وعظ أم تعليم؟

منذ حوالي ساعة

لو أن خَطِيبينِ للجمعة خَطَبَا عن أوقات الصلاة، أحدهما عرض أحكامها عرضًا علميًّا، وآخر لم تكن خطبته علمية بحتة، بل كانت موعظة تخاطب القلب لا العقل، فمَنِ المصيب في ظنِّك؟

لو أن خَطِيبينِ للجمعة خَطَبَا عن أوقات الصلاة، أحدهما عرض أحكامها عرضًا علميًّا، وآخر لم تكن خطبته علمية بحتة، بل كانت موعظة تخاطب القلب لا العقل، فمَنِ المصيب في ظنِّك؟

 

حتى يكون الجواب علميًّا؛ علينا أن نحتكم إلى تعريف الخطبة، وقد تعددت تعريفاتها، وهذا التعدد لم يضر كثيرًا بأساسها؛ من مشافهة، وجمهور، وإقناع، ومن هذه التعريفات ما جاء في التعريفات للشريف الجرجاني (ت: 816) يقول عنها: “قياس مركب من مقدمات مقبولة، أو مظنونة، من شخص معتقَد فيه، والغرض منها ترغيب الناس فيما ينفعهم من أمور معاشهم ومعادهم”[1]، ويقول الطاهر بن عاشور (ت: 1339) إنها: “كلام يحاوَل به إقناع أصناف السامعين بصحة غرض يقصِده المتكلم لفعله أو الانفعال به”[2]، ويقول حازم القرطاجني (ت: 684) وهو من أعلام النقد في القرن السابع في معرِض حديثه عن الشعر والخطابة، وبيان ما هو أصل فيهما: “وينبغي ألَّا يستكثر في كلتا الصناعتين مما ليس أصيلًا فيها؛ كالتخييل في الخطابة، والإقناع في الشعر، بل يؤتى في كلتيهما باليسير من ذلك على سبيل الإلماع”[3].

 

بقليل من التأمل تجد أن التأثير والإقناع ركنٌ أصيل في الخطبة، فثمة حديث عن انفعال، وأحاسيس، واستمالة، وهذه ألفاظٌ منطقةُ عملِها القلبُ لا العقل، أما الخطاب العلمي البحت، فليس هذا محله.

 

وإذا رجعنا إلى الخطابة في العصر الجاهلي وما بعده، وجدنا أن من أغراضها الدعوة إلى الحرب أو السلم، والنصح والإرشاد والفخر، فالتأثير ملازم لها، والتعليم بعيد عنها، وانتماء الخطبة إلى الأدب وتاريخه عبر العصور حُجَّة ثابتة؛ فهي منتسبة إلى الأدب ذي الصبغة الأدبية، المبايِن للصبغة العلمية.

 

ومما يَحسُن بيانه: سمات الأسلوب العلمي؛ ومنها:

• نقل المعارف والأحكام وحشدها.

 

• التراكيب التي تخاطب العقل والفكر، لا العاطفة والشعور.

 

• البعد عن الإثارة والانفعال.

 

• طول الجُمل، والبعد عن الجرس الصوتي[4].

 

ومما يُكوِّن هذه السمات العلمية بُعد الخطيب عن الأساليب الإنشائية، فتجد خطيبنا الأول، صاحب العرض العلمي سيقول: يدخل وقت صلاة الصبح بطلوع الفجر، ويخرج بطلوع الشمس، ولربما ناقش أفضل وقت لصلاة الصبح مع عرض لأقوال الأئمة في التغليس، أما خطيبنا الثاني سيقول: يا عبدالله، كيف تهنأ بنوم وقت صلاة الصبح، ومنادي الرحمن قد ناداك، والله أنعم عليك وآواك؟ فلا تكُنْ ممن آثر دنياه على آخرته، فلا يقوم إلا بعد طلوع الشمس تاركًا حقَّ ربه، حريصًا على دنياه، فالمسلم الحق يقدم الآخِرَةَ على الأُولى، والباقية على الفانية.

 

فالأول اعتمد على الأخبار ومخاطبة العقل، والثاني لم يعتمد الأخبار في خطابه، بل مزج بين الخبر والإنشاء؛ فتجد النداء والاستفهام والنهي، وهي من الإنشاء الطلبي، الذي هو أقدر على إثارة السامع؛ فالنداء يطلب استجابة، والاستفهام يطلب جوابًا، والنهي يطلب الكَفَّ، فالجُمل الإنشائية تتناوب على المخاطب، وتتزاحم على الظَّفَرِ بقلبه وسمعه، أما سرد الأحكام والأخبار فيكون معه الغفلة؛ فالنفس تسكن عند توالي الأمر الواحد فتهدأ، وربما تهجَع.

 

فمن حضر خطبة الأول أضاف إلى حصيلته المعرفية علمًا، والمفترض أن من حضر عند الثاني أن يتغيَّرَ سلوكه، وأن يبادر إلى الصلاة في وقتها، مع أنه قد لا يُحصِّل كثيرَ علمٍ، لكنه ذُكِّر فتذكر.

 

ورحِم الله علماء البلاغة حين عرَّفوها بأنها: مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته[5]، فقضية المقام، ومطابقة الكلام له، هو فيصلٌ في الحكم بالبلاغة، وعليه فالمعوَّل عليه في الحكم ببلاغة موضوع خطبة الجمعة ما جاء في الشرع.

 

وقد جاء عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه، حتى كأنه منذرُ جيشٍ، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، ويقول: بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين، ويَقْرِنُ بين إصبعيه السبابة والوسطى))[6]، وعن العرباض بن سارية، قال: ((وَعَظَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرَفت منها العيون، ووجِلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظةُ مودِّعٍ، فماذا تعهَّد إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدٌ حبشي، فإنه من يَعِشْ منكم يرى اختلافًا كثيرًا، وإياكم ومحدَثات الأمور؛ فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ))[7].

 

تبدو سمات المخاطِب صلى الله عليه وسلم وتفاعله في الحديث الأول قاطعةً بأنه لم يكن خطابًا علميًّا، وفي الحديث الثاني تصريح بنوع الخطاب، وأنه وعظيٌّ، مع أن سمات تفاعل المخاطَبين قاطعة وشاهدة بأنه كان خطابًا وعظيًّا؛ فغرق العيون دمعًا، ووجل القلب خوفًا إنما هو أثر لِوَعْظٍ.

 

وقد جاء عن بنتٍ لحارثة بن النعمان، قالت: ((ما حفظِتُ ﴿ ق ﴾ [ق: 1]، إلا مِن فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخطب بها كل جمعة))[8]، علَّق النووي (ت: 676) شارحًا؛ فقال: “قال العلماء سبب اختيار ﴿ ق ﴾ [ق: 1]، أنها مشتملة على البعث والموت، والمواعظ الشديدة، والزواجر الأكيدة، وهذا صريح أن موضوع الخطبة الوعظ والتأثير لا التعليم.

 

وما دام الحديث عن موعظة وزواجر، فمما شاع أن الوعظ محصور بذكر الموت والقبر، وهو خطأ قديم؛ يقول ابن القيم (ت: 751): “كانت خطبته صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان؛ من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وذِكْرِ الجنة والنار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا، ومعرفة بالله وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمورًا مشتركة بين الخلائق؛ وهي النوح على الحياة، والتخويف بالموت …”[10] ، وهذا نص ثريٌّ في موضوع الخطب، وشاهِدُنا أنه أكَّد على موضوع خُطَبِهِ صلى الله عليه وسلم، وأنها في دائرة الموعظة، ومن المهم التنبيه على قوله: “فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا …”؛ فهي خطاب تأثيري يخاطب القلب ويعالجه، وصلاح هذه الْمُضْغَة مقصد شرعي؛ فصلاحها صلاح للجوارح.

 

ربما ظنَّ ظانٌّ أنه يتوجب على الخطيب نبذُ التعليم، وبيان الأحكام في الخطبة، والحق أنه لا يُعدَل إلى الترجيح ما أمكن الجمعُ، وما دام أنه يمكن أن يَعرِض الأحكام، ويُذكِّر بحق الله فيها، مع ترغيب وترهيب فهذا عين الصواب، وهو منهج قرآني؛ فأنت واجد الآيات من السورة في الأحكام الخالصة، ثم تجد الخطاب الوعظي يسري فيها؛ ففي قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237]، هذه الآية قبلها أكثر من عشر آيات كلها في بيان أحكام النكاح والطلاق؛ حيث سردت هذه الآيات أحكامًا متعددة، فهي أحكام بحتة إلا أنك تجد الوعظ ركنًا رئيسًا فيها، ولا يغيب بين تفاصيلها، كما هو جليٌّ في الشاهد السابق، فبعد أن بيَّن عز وجل حكمَ الزوجة غير المدخول بها، وأن لها نصف المهر، وَعَظَ الزوجين وحثَّهما على العفو، ورغَّب فيه بذكر المعروف، ثم خُتمت الآية ببيان كمال علمه عز وجل، وفيه حثٌّ لكلٍّ منهما على الخوف منه سبحانه وتعالى، فقد حضر الوعظ بعد بيان الحكم، ولم يكن ذلك خارجًا عن سياق الخطاب، وهذا ما فهِمه سلف هذه الأمة، أما الفصل الحاد بين التعليم والوعظ، فلم يكن في القرون الأولى، بل حادث؛ يقول ابن الجوزي (ت: 597): “كان الوُعَّاظ في قديم الزمان علماء فقهاء”[11].

 

ومن المسائل الفقهية التي تُناقَش: أركان خطبة الجمعة، وهو نقاش طويل أكتفي بنقل شيء من كلام الشوكاني (ت: 1250)، فقد بيَّن أن روح الخطبة الموعظة الحسنة من قرآن أو غيره، وأن المراد من الخطبة الوعظ، وهو آكَد من غيره وأدخل في المشروعية[12].

 

ومن الموعظة تبيين الأحكام والأوامر والنواهي؛ يقول محمد الأمين الشنقيطي (ت: 1393): “ضابط الوعظ: هو الكلام الذي تلين له القلوب، وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء أوامرُ ربهم ونواهيه؛ فإنهم إذا سمِعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله، وطمِعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله …”[13] ، فاذكر – أخي الخطيب – قول الشيخ ولا تُغفِل مطلعه؛ ففيه التأكيد على أن هذا الخطاب يُليِّن القلوب.

 

هذا الحديث كله عن خطبة الجمعة وموضوعها، فكيف إذا أخبرتك أنِّي سبرتُ عشرات الخطب للصحابة رضي الله عنهم في موضوعات متباينة فوجدت الوعظ قرينها؟ حتى خطبهم السياسية لم تكن تخلو غالبًا من موعظة، فبُهداهُمُ اقْتدِهِ.

 


[1] التعريفات: الشريف الجرجاني: 99، تحقيق: جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1403هـ.

[2] أصول الإنشاء والخطابة: 33، محمد الطاهر بن عاشور، ت: ياسر بن محمد المطيري، دار المنهاج، الرياض، الطبعة الأولى، 1433ه.

[3] منهاج البلغاء وسراج الأدباء: 362، حازم القرطاجني، ت: محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثالثة، بيروت، 1986م.

[4] انظر: علم الأسلوب في الدراسات الأدبية والنقدية: 15، عبدالعظيم المطعني، مكتبة وهبة، الطبة الأولى، 1422ه.

[5] انظر: الإيضاح: 1/ 41، الخطيب القزويني، ت: محمد عبدالمنعم خفاجي، دار الجيل، بيروت، الطبعة الثالثة.

[6] رواه مسلم، برقم: 867.

[7] رواه الترمذي، برقم: 2676، وقال: حديث حسن صحيح.

[8] رواه مسلم، برقم: 873.

[9] شرح النووي على مسلم: 6/ 398، ت:خليل مأمون شيحا، دار المعرفة،، بيروت، الطبعة الثامنة عشرة، 1431ه.

[10] زاد المعاد في هدي خير العباد: 1/ 409، ابن القيم، مؤسسة الرسالة، بيروت، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت،

الطبعة السابعة والعشرون ، 1415هـ.

[11] تلبيس إبليس: 111، أبو الفرج ابن الجوزي، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1421هـ.

[12] انظر: السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار: 1/ 299، محمد بن علي الشوكاني، ت: محمود إبراهيم زايد، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405ه.

[13] أضواء البيان: 2/ 438، محمد الأمين الشنقيطي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، لبنان، 1415ه.

____________________________________________________
الكاتب: د. أحمد بن محمد عبيري


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

وما توفيقي إلا بالله – طريق الإسلام

ما أعظم أن يسير المرء في طريق الخير، ويستقيم عليه، وترعاه عناية الله في كل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *