منذ حوالي ساعة
الْتَحِقْ بالرَّكْبِ، وقِف في الصف، وابذل ما تستطيع من سهام تصوب إلى نحور الأعداء بما يسره الله لك، قال رسول اللهﷺ «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم».
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف: 1، 2] {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70]، والصلاة والسلام على من خاطبه ربه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]، وامتنَّ الله عليه وعلى أمته بإنزال القرآن؛ فقال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44]، صلى الله عليه وعلى آله المخاطبين بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، وصحابته الموصوفين بقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]، والتابعين لهم بإحسان؛ الذين أثنى الله عليهم بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
الوصية بالتقوى.
عباد الله:
جاءت فترة الردة ومحاولة إتيان المتنبئين بما يشبه القرآن، ففضحوا أنفسهم ونادَوا على أنفسهم بالجهل والحماقة، ثم تواترت الفترات، وجاء تحريف الكَلِم عن مواضعه وجنايات التأويل على القرآن، وكل ذلك باء بالفشل؛ لأنه اصطدم بقلعة الحفظ الإلهي، فارتد على الأدبار خاسئًا، وثبتت الحقيقة الراسخة التي أعلنها الله تعالى بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فثبت القرآن، وحُفِظَ وانتشر، وذهبت كل المحاولات وجميع المؤامرات أدراج الرياح.
وعندما تجددت الحروب الغاشمة على الإسلام وأهله، وعلى أصله العظيم القرآن الكريم مع فترة الاستعمار الغربي، عاد الهجوم على القرآن، واستُجدَّت وسائل أخرى تنُمُّ عن حقد دفين، واستهداف تام لهذا القرآن؛ كونه الضمان الأكيد لبقاء الإسلام والمسلمين وحياتهم، وتمنعهم عن تنفيذ أهداف الأعداء، وظهر بعض ما كانت تخفي صدورهم، وأجْلَبُوا بخيلهم ورجِلهم، فشوَّهوا وشكَّكوا، وقذفوا بآلاف الشبهات، فحفظ الله القرآن، وذهب الزَّبَد، وبقِيَ ما ينفع الناس، وجاءت الصحوة بعد ذلك، فحُفِظَ القرآن وفُسِّر، وحكم لدى العديد من المسلمين، وأُحْيِيَ ما اندثر من علومه، وعاد إلى الصدارة والقيادة، والعزة والظهور، واكتشف الناس حقيقة أعدائهم.
وحينما أخذت الصحوة الإسلامية مداها، واشتهر أمرها، وأصبحت ملء سمع الدنيا وبصرها، خافها الأعداء، ودبروا لها المكائد، والمؤامرات، فحاربوا القرآن بأساليبَ مختلفة؛ منها:
1- محاولة تقليص تدريسه، وتخفيض حصصه في مدارس المسلمين.
2- الأمر بتصفية مناهج الدراسة من كثير من الآيات التي لا ترُوقُ لهم.
3- إخراج كتاب جديد باسم (الفرقان الحق)؛ لمحاولة صرف المسلمين عن قرآنهم إليه، وما ذاك إلا اقتداء بمسيلمة الكذاب؛ حيث أتى بخزعبلاته فصارت عارًا عليه إلى يوم القيامة، أو بأبرهة حين بنى كنيسة القليس؛ ليصرف الناس عن بيت الله الحرام، فما زاد أن أضحك العقلاء على نفسه، وأثبت للتاريخ أنه أحد أكابر الحمقى والمغفلين.
وأخيرًا حينما فشلت كل تلك المؤامرات، وطفح الحقد، وغَلَت مراجله، جاءت الحادثة الشنيعة – حادثة تمزيق وتلويث القرآن الكريم وإهانته بقاعدة غوانتانامو، وفضحهم الله، وكشف سترهم بواسطة وسائل إعلامهم، وعادوا صاغرين خانعين يعتذرون من المسلمين في الظاهر، ويفكرون في وسائل جديدة لمحاربة القرآن في الباطن، ولكنها سوف تلحق بأخواتها، ما دام المسلمون يقضون، عاملين على حماية كتاب ربهم ودستورهم ومصدر عزِّهم.
هذا هو القرآن، وهذه منزلته، وهذا خوف الأعداء منه، وتلك محاولاتهم ووسائلهم لحربه، وتلك المعجزة الخالدة تظهر بحفظ الله له، رغم كل ذلك؛ وصدق الله حيث قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيَوه! وكم من ضالٍّ تائه قد هدَوه! فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، وعلى آله الأكرمين، وأصحابه المتقين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فيا عباد الله: اعلموا – حفظكم الله – أن حفظ الله للقرآن لم يتم بملائكة منزلين من السماء، ولا بأمور غيبية، لا دخل للأسباب فيها، وإنما هيأ سبحانه لذلك الحفظ أسبابًا، معظمها كان على أيدي الصالحين من عباده؛ وذلك بحفظه في الصدور حفظًا متقنًا كاملًا لجميع سوره وآياته، وكلماته وحروفه، بل وللطريقة التي تُقرَأ بها تلك الكلمات والحروف، فلم يبقَ حرف ولا حركة، إلا وقد حفظه الحُفَّاظ، ولقَّنوه لمن بعدهم؛ قال سبحانه وتعالى في صدد الدفاع عنه، والرد على من يشكك فيه: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ * وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 47 – 49]، ولم يكتفــــــــوا بحفـــظ الصـــدور، بل حفظـــــــــــوه بالكتابـــــــة منذ عهد نزولــــه، فكان للرسول صلى الله عليه وسلم كَتَبَةُ وحيٍ يكتبون كل آية تنزل، ويضعونها في موضعها من السورة والمصحف، ثم جاء الجمع على عهد أبي بكر بطريقة توثيقية ممن رقــــــي طرق التوثيـــــق بحيث لم يُزَدْ فيه حرف أو ينقص، أو يحرَّف منه حرف أبدًا، ثم إن عثمان كتب المصاحف على شكلها الحالي، ثم توالت وسائل الحفظ من لغة ونحو، وتفسير وقراءات، وتجويد ورسم، وغير ذلك.
وكل ذلك كان يتلقَّاه الخَلَفُ عن السلف بأسانيد متواترة مستفيضة، لا تَدَعُ أيَّ مجال للشك في حرف واحد أو حركة واحدة، بحيث لو قُدِّر أن المصحف المكتوب فُقِدَ نهائيًّا، لم يضِع حرف واحد ولو اجتمعت الدنيا كلها على تغييره أو تبديله، لم تقدر على ذلك، إنما هو الجهل بعظمة الله وقدرته وجلاله، والجهل بهذا القرآن وإعجازه، والجهل بهذه الأمة، وما جعل الله فيها من ضمانات للحفاظ على دينها وقرآنها، الجهل بذلك كله هو الذي جعل الأعداء الكافرين يكررون تلك المحاولات الفاشلة لحرب القرآن وأهل القرآن، ويبذلون في سبيل ذلك الأموال، ويبددون الطاقات، ولا يستفيدون إلا غضب الله وسخطه، وتعجيل عقابه في الدنيا قبل الآخرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]، هذا هو حفظ الله للقرآن بواسطة هؤلاء الرجال الذين بذلوا أنفسهم ونَفِيسَهم لحفظه، كل في مجال تخصصه.
ونحن اليوم ونحن نعاصر أكبر وأعتى هجمة على هذا القرآن بأخبث وأقذر الوسائل، وأكثرها دهاءً ومكرًا، على يد أقوى قوة بشرية في العالم، ما هو موقفنا؟ لا شك أن موقفنا هو إحياء ما بدأه أسلافنا من وسائل حفظ القرآن؛ وذلك بحفظه، وحسن تلاوته، وتدبره، وبإحياء سائر علومه، وممارستها عمليًّا، وليس نظريًّا فقط، وقد هيأ الله أقوامًا لحفظ القرآن والحفاظ عليه؛ فنشأت الجامعات والمدارس والمعاهد المتخصصة للحفاظ على القرآن، وإشاعة علومه، وأنشأت الجمعيات والمنظمات المتخصصة لذلك.
هؤلاء الرجال الذين سَمَتْ هِمَمُهم لحفظ القرآن والحفاظ عليه، إنما يملكون الفكرة والعلم والتخطيط، ويقومون بالتنفيذ.
غير أن ذلك كله لا يصلح ولا يتأتى بغير المال؛ فالمال هو عصب الحياة، وهو أقوى الوسائل المادية لقيام أي مشروع وإنجاح أي محاولة؛ ولذلك فقد أوقف آباؤنا وأجدادنا نفائس أموالهم وأملاكهم، وحرموا منها أنفسهم أولادهم لنذر المال الذي يتمكن العاملون للخير من الوصول إلى أهدافهم، فهل أنت يا عبدالله ممن يسهم في حفظ القرآن والحفاظ عليه والتصدي لمن يحاربه؟ فالْتَحِقْ بالرَّكْبِ، وقِف في الصف، وابذل ما تستطيع من سهام تصوب إلى نحور الأعداء بما يسره الله لك؛ لتكتب من الحافظين لكتاب الله، والمحافظين عليه، ولا تحقرن شيئًا من جهد أو مال تقدر عليه؛ فإن الله لا يضيع شيئًا، بل يقبله ويضاعفه؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، والدفاع عن كتاب الله والحفظ له، والحفـــــاظ عليه من أعظـــم الجهـــاد في سبيل الله؛ وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 – 13].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»؛ (رواه أبو داود[1]، والنسائي[2]، عن أنس رضي الله عنه).
[1] صحيح سنن أبي داود 3/ 10.
[2] صحيح سنن النسائي 6/ 7.
_______________________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد بن حسن المعلِّم
Source link