منذ حوالي ساعة
فيا أيها المسلمون، إن البرهان الصادق لمحبة النبي -ﷺ- هو تعظيمه وإجلاله وطاعته، والتحاكم إلى شريعته، واتباع هديه وسنته، والدفاع عنه، ونصرته حيًّا وميتًا، والثناء عليه بما هو أهله
عباد الله، يقول مؤلف كتاب “المائة الأوائل” الذي درس تاريخ البشرية، واختار من بين عظماء البشرية على مَرِّ التاريخ مئة شخصية، وسمَّى كتابه “المائة الأوائل”، فجعل محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على رأس المائة في التاريخ، حيث قال: “هو الإنسان الأوَّل من بين المائة الأوائل في تاريخ البشرية كلها من حيث قوة التأثير، ومن حيث نوع التأثير، ومن حيث امتداد أمد التأثير، ومن حيث اتساع رقعة التأثير”.
ويقول الدكتور زويمر: “إن محمدًا كان ولا شك من أعظم القادة المسلمين الدينيين، ويصدق عليه القول أيضًا بأنه كان مصلحًا قديرًا وبليغًا فصيحًا وجريئًا مغوارًا، ومفكرًا عظيمًا، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء”.
أيها الإخوة، هذه شهادة من بعض غير المسلمين شهادة حق أدلوا بها وأفصحوا عنها لكننا نحن المسلمين نرى أنها ليست كذلك، فهي شهادة نقص وضعف؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم فوق هذا وأكثر وأكثر وأكثر.
قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: إن من الظلم لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وإن من الظلم للحقيقة، أن نقيسه بواحد من هؤلاء الآلاف من العظماء الذين لمعت أسماؤهم في دياجي التاريخ، من يوم وجد التاريخ، فإن من العظماء من كان عظيم العقل ولكنه فقير في العاطفة وفي البيان، ومن كان بليغ القول وثَّاب الخيال، ولكنه عادي الفكر، ومن برع في الإدارة أو القيادة، ولكن سيرته وأخلاقه كانت أخلاق السوقة الفجَّار.
ومحمد -صلى الله عليه وسلم- هو وحده الذي جمع العظمة من أطرافها، وما من أحد من هؤلاء، إلا كانت له نواحٍ يحرص على سترها وكتمان أمرها، ويخشى أن يطَّلِع الناس على خبرها، نواحٍ تتصل بشهوته، أو ترتبط بأسرته، أو تدل على ضعفه وشذوذه.
أما نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فوحده الذي كشف حياته للناس جميعًا، فكانت كتابًا مفتوحًا، ليس فيه صفحة مطبقة، ولا سطر مطموس، يقرأ فيه من شاء ما شاء.
وهو وحده الذي أذن لأصحابه أن يذيعوا عنه كل ما يكون منه ويبلغوه، فرووا كل ما رأوا من أحواله في ساعات الصفاء، وفي ساعات الضعف البشري؛ وهي ساعات الغضب، والرغبة، والانفعال.
وروى نساؤه كل ما كان بينه وبينهن، فهاكم السيدة عائشة -رضي الله عنها- تعلن في حياته وبإذنه أوضاعه في بيته، وأحواله مع أهله، وكتب الحديث والسير والفقه ممتلئة بها.
لقد رووا عنه في كل شيء، حتى ما يكون في حالات الضرورة البشرية، فعرفنا كيف يأكل، وكيف يلبس، وكيف ينام، وكيف يقضي حاجته، وكيف يتنظف من آثارها.
فأروني عظيمًا آخر جرؤ أن يغامر فيقول للناس: هاكم سيرتي كلها، وأفعالي جميعًا، فاطَّلِعوا عليها، وارووها للصديق والعدوِّ، وليجد من شاء مطعنًا عليها!
أروني عظيمًا آخر دونت سيرته بهذا التفصيل، وعرفت وقائعها وخفاياها بعد أكثر من ألف وأربعمائة سنة كما عرفت في حينها، مثل معرفتنا بسيرة نبينا.
والعظمة إما أن تكون بالطباع والأخلاق والمزايا والصفات الشخصية، وإما أن تكون بالأعمال الجليلة التي عملها العظيم، وإما أن تكون بالآثار التي أبقاها في تاريخ أمته وفي تاريخ العالم، ولكل عظيم جانب من هذه المقاييس تقاس بها عظمته، أما عظمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فتُقاس بها جميعًا؛ لأنه جمع أسباب العظمة، فكان عظيم المزايا، عظيم الأعمال، عظيم الآثار؛ انتهى كلامه رحمه الله.
يا أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- ولأجل أن نتبين شيئًا من عظمته نذكر نزرًا يسيرًا من جوانب هذه العظمة:
يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: كان -صلى الله عليه وسلم- أحلم الناس، وأشجع الناس، وأعدل الناس، وأعفَّ الناس، لم تمس يده قط يد امرأة لا يملك رقها أو عصمة نكاحها، أو تكون ذات محرم منه، وكان أسخى الناس، لا يبيت عنده دينار ولا درهم، لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط، من أيسر ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، لا يسأل شيئًا إلا أعطاه، وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخدم في مهنة أهله، ويقطع اللحم معهن، وكان أشد الناس حياءً، لا يثبت بصره في وجه أحد، ويجيب دعوة العبد والحر، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن ويكافئ عليها، ولا يأكل الصدقة، ولا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين، يغضب لربه ولا يغضب لنفسه، وينفذ الحق وإن عاد ذلك عليه بالضرر أو على أصحابه، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ولا يتورَّع عن مطعم حلال، ولا يأكل متكئًا ولا على خوان، ولم يشبع من خبز ثلاثة أيام متوالية حتى لقي الله تعالى، إيثارًا على نفسه لا فقرًا ولا بخلًا، يجيب الوليمة، ويعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس، أشد الناس تواضعًا، وأسكنهم في غير كبر، وأبلغهم من غير تطويل، وأحسنهم بشرًا، لا يهوله شيء من أمور الدنيا، ويلبس ما وجد، يردف خلفه عبده أو غيره، يركب ما أمكنه، مرةً فرسًا، ومرةً بَعيرًا، ومرةً بَغلةً، ومرةً حِمارًا، ومرةً يمشي حافيًا بلا رداء ولا عمامة ولا قلنسوة، يعود المرضى في أقصى المدينة، يحب الطيب، ويكره الرائحة الرديئة، يجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم، لا يجفو على أحد، يقبل معذرة من اعتذر إليه، يمزح ولا يقول إلا حقًّا، يضحك من غير قهقهة، يرى اللعب المباح فلا ينكره، يسابق أهله، وترفع الأصوات عليه فيصبر، وكان له عبيد وإماء لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس، لا يحتقر مسكينًا لفقره أو لمرضه ولا يهاب ملكًا لملكه، وما ضرب بيده أحدًا قط، وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون فيه إثم أو قطيعة رحم.
قد جمع الله له السيرة الفاضلة والسياسة التامة وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، نشأ في بلاد الجهل والصحاري في فقره وفي رعاية الغنم، يتيمًا لا أب له ولا أم، فعلَّمه الله تعالى جميع محاسن الأخلاق، والطرق الحميدة وأخبار الأولين والآخرين، وما فيه النجاة والفوز في الآخرة والغبطة والخلاص في الدنيا، ولزوم الواجب وترك الفضول؛ انتهى كلامه رحمه الله.
وخير من هذا كله قول الرب الرحيم الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
حق لنا معاشر المسلمين أن نفخر ونعتز ونتباهى بهذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم اجعلنا ممن اتبع نبيك، واجعلنا اللهم من الداعين إلى سنته وهديه، واجعلنا ممن يشرب من حوضه -صلى الله عليه وسلم- يوم يأخذ العطش من الناس كل مأخذ، وأدخلنا برحمتك الجنة لنلقى الأحِبَّة محمدًا وصَحْبه، اللهم آمين.
فيا أيها المسلمون، إن البرهان الصادق لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- هو تعظيمه وإجلاله وطاعته، والتحاكم إلى شريعته، واتباع هديه وسنته، والدفاع عنه، ونصرته حيًّا وميتًا، والثناء عليه بما هو أهله، وكذا تعظيم ما جاءت به الشريعة السمحة من غير غلو ولا جفاء، كما فهمها سلف هذه الأمة وطبَّقوها في واقع حياتهم.
عباد الله، إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليست تأليف الصلوات المبتدعة، وعمل الموالد، وإنشاد القصائد والمدائح، وإقامة الحفلات والرقصات، وقد يقترن بذلك بعض الشركيات؛ من دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- والاستغاثة به، وقد يحدث الاختلاط بين الرجال والنساء وغير ذلك من المفاسد، بل محبته -صلى الله عليه وسلم- في جميع العام وعلى كل حال.
فأسعد الناس به من اتَّبَع سُنَّته، وعمل بها، وطبَّقها على نفسه في أقواله وأعماله، فإنه يكون بذلك من الصادقين، ويكون بذلك من المؤمنين حقًّا.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعظم محبة رسوله في قلوبنا، وأن يجعل محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظم عندنا من محبة أنفسنا وأهلينا، وآبائنا وأمهاتنا، وأزواجنا وبناتنا، وأن يجعل محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم – طمأنينة قلوبنا، وانشراح صدورنا، وأن يجعل محبته عونًا لنا على طاعة الله عز وجل وحسن الصلة به؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
_______________________________________________________
الكاتب: أحمد بن عبدالله الحزيمي
Source link