لقد أمر الله الإنسان بحفظ الأمانة، وحرم عليه الخيانة، والأمانة هي كل ما أمر الله به، ونهى عنه، وفي طليعة هذه الأوامر، بل من أهمها؛ الأمانة بحفظ الأولاد، وتربية فلذات الأكباد، ووقايتهم من سخط الله وعذابه في يوم المعاد…
أيها المسلمون عباد الله، إن الإنسان في هذه الحياة ليمرُّ بعدة مراحل وأطوار من طفولة إلى شباب، إلى كبر، ثم إلى ضعف، وهرم، نسأل الله أن يحسن الختام!
ومن نظر في الطور الذي كان مليئًا بالمواقف والإنجازات، والذكريات والتغيرات – وجد أنه في طور وسن الشباب، من تأمل في تأريخ الإسلام وجد أن أبطاله وحماته هم الشباب، لكن حديثنا اليوم ليس موجهًا لمعشر الشباب في المقام الأول، حديثنا اليوم هو رسالة ونصيحة، وتذكير لمن أهمل الشباب، وطاقات الشباب، وحياة الشباب.
حديثنا لمعشر الآباء، أو لبعض الآباء الذين كان لهم النصيب الأكبر، والحظ الأوفر، فيما أولادهم فيهم من الضياع، وذهاب الرجولة، والعطالة، والبطالة. حديثنا اليوم فيه تذكير، وتوجيه، وهمسة عتاب، بل هو عتاب صريح لكل من يشكو من أولاده، ويعاني من تربيتهم بعد إهمالهم، ويتجرع الغصص، والآلام من سوء أخلاقهم، حديثنا عن مسؤولية الآباء تجاه أولادهم، والرجال أمام شبابهم.
معاشر المسلمين والمسلمات، لقد أمر الله الإنسان بحفظ الأمانة، وحرم عليه الخيانة، والأمانة هي كل ما أمر الله به، ونهى عنه، وفي طليعة هذه الأوامر، بل من أهمها؛ الأمانة بحفظ الأولاد، وتربية فلذات الأكباد، ووقايتهم من سخط الله وعذابه في يوم المعاد؛ يقول الله سبحانه وتعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
وقال سبحانه وتعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، وقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، وقال – مادحًا نبيه إسماعيل عليه السلام: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55]، وقال عن عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
ويقول المعلم الأول، والمربي الأعظم، صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» [1]، وقال: «علموا أولادكم الصلاة وهم أبناء سبع» [2]، وقال لابن عباس: «يا غلام، احفظ الله يحفظك» [3].
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا مات انقطع عمله، إلا من ثلاث…وذكر منهن: أو ولد صالح يدعو له [4].
وأخبر أن الولد: إذا حفظ القرآن يلبس والداه تاج الوقار، الياقوتة فيه خير من الدنيا وما فيها، وأخبر أن درجة الوالد سوف ترفع له بعد موته؛ فيقول: يا رب، من أين جاءت هذه؟! فيقول هذه باستغفار ولدك لك.
أيها المسلمون عباد الله، إن اليأس قد يدب أحيانًا في هذا الزمان، ويعتصر القلب بالآلام والأحزان، يوم يرى شباب هذه الأيام، بل حتى الأولاد الصغار للأسف، يوم يرى أخلاقهم، وتربيتهم، وتعاليم الإسلام فيهم، وأين تُقضى أوقاتهم؟ من قدواتهم؟ كيف هي أشكالهم؟ ملابسهم، قصاتُ شعورهم، الكلمات، والألفاظ التي تخرج من أفواههم، ما الذي يشاهدونه، ويحملونه في جوالاتهم……إلى غير ذلك من أحوالهم.
ولا يخفى أن الآباء لهم نصيب ودورٌ كبير فيما عرضناه من أحوالهم، نسأل الله أن يعين الآباء على تربية أولادهم، وقبل التوجيه والإرشاد، وعرض الحقوق التي تجب على الآباء تجاه الأولاد، تعالوا بنا – أولًا – لنقلب صفحات من تأريخ ماضينا المجيد، لننظر ولنتأمل في حال أولئك الآباء، وإلى تلك الأمهات اللاتي عرفن حق هذه المسؤولية، وأخرجن لنا أجيالًا وشبابًا ترتفع الرؤوس بذكرهم، وتدمع العين بمواقفهم إذا ما قارناها بشباب هذا الزمان، وهذه الأيام، لتعلموا ولنعلم جميعًا أن الآباء، والأمهات لهم دور في فساد البنين، أو البنات.
تعالوا بنا لنبدأ بالمدرسة – التي هي الأم:
الأم مدرسة إذا أعددتها ** أعددت شعبًا طيب الأعراق
تعالوا بنا لنتعرف على المدرسة المربية، ولنبدأ بصفية وما أدراكم ما صفية رضي الله عنها وأرضاها، تلك المرأة التي ربَّت وليدها فأحسنت تربيته، تلك المرأة التي ربَّت لنا أول فارس سلَّ سيفًا في سبيل الله، إنه الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه – كانت تربِّيه على الجلد والخشونة، لا على الترف والميوعة، حتى أصبح الشباب والرجال في هذا الزمان أشباه رجال لا رجالًا، كانت تربيه على المخاوف، فإذا أحجم ضربته، حتى قال لها بعض أعمامه: يا صفية، إنك تضربينه ضرب مبغضةٍ لا ضرب أم، فارتجزت قائلةً:
من قال قد أبغضته فقد كذب ** وإنما أضربه لكي يلَب
ويهـــزم الجيـش ويأتي بالسلــب:
رضي الله عن صفية، من الذي أخرج الزبير؟ إنها صفية، من الذي أخرج عبد الله بن الزبير؟ إنها أسماء بنت أبي بكر، فحين أن استشارها ولدها في قتال الحجاج قالت رضي الله عنها: «اذهب يا ولدي، والله لضربةٌ بالسيف على عز أهون من ضربة بالسوط على ذل»، وعندما نُعي إليها ولدها قالت: ما يمنعني أن أصبر وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل، أقسم بربي أن امرأة كهذه خير من الدنيا وما فيها من زخرف ومتاع.
انظر وتأمل في تراجم أعلام الإسلام، من الذي أخرجهم، من الذي أخرج الإمام أحمد بن حنبل؟ من؟! من يا رجال اليمن؟ لقد كانوا وكنا فلسنا مثلهم أبدا، رضي الله عنهم وأرضاهم.
كانت أم سفيان الثوري تربي ولدها على الشرف، وعلى الملك الذي لا يعرفه إلا من تذوَّقه، وطعم حلاوته، كانت تربيه على العلم الشرعي، وتقول له: يا بني، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي، يا بني إذا كتبت عشرة أحرف ولم تشعر بزيادة أدب، ولا خشية لله، فاعلم يا ولدي أنها تضرك لا تنفعك.
ولو كن النساء كمثل هذي *** لفضلت النساء على الرجال
من كان من وراء ابن تيمية رحمه الله شيخ الإسلام الذي ربما لا تمر ساعةٌ من ساعات هذه الدنيا إلا ونحن نسمع عن شيخ الإسلام رحمه الله، قال شيخ الإسلام، وذكر شيخ الإسلام.
ذُكر أنه لما أرسل رحمه الله إلى أمه رسالة يعتذر فيها عن بعده عنها، وإقامته في مصر لبعض شؤون الدين، والدعوة، وصلت الرسالة إلى أمه، ثم ردت عليه وقالت: ولدي الحبيب، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ومغفرته، ورضوانه، فإنه – والله – لمثل هذا ربيتك، ولخدمة الإسلام والمسلمين نذرتك، وعلى شرائع الدين علمتك، ولا تظنُّن يا ولدي أن قربك مني أحبُّ إليَّ من قربك من دينك، وخدمتك الإسلام والمسلمين، بل يا ولدي إن غاية رضائي عليك لا يكون إلا بقدر ما تقدمه لدينك، وللمسلمين، وإني يا ولدي لن أسالك غدًا أمام الله عن بعدك عني؛ لأني أعلم أين، وفيما أنت، لكن يا أحمد سأسلك غدًا أمام الله، وأحاسبك إن قصرت في خدمة دين الله، وخدمة أتباعه من إخوانك المسلمين. رضي الله عنك، وأنار بالخير دربك وسدَّد خطاك، وجمعني الله وإياك تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
ولو جاز حكمي في العالمين *** وقسمت أسماءها في الورى
لسميت بعض النساء الرجال *** وسميت بعض الرجال النسا
هؤلاء النساء والله إنهن يعدلنَ آلاف الرجال في هذه الأيام، الذين ما أخرجوا لنا من بيوتهم إلا أولادًا وشبابًا قد مسخت عقولَهم الأفلامُ والمسلسلات، وأصبح الواحد منهم لا يعرف كيف يقرأ ولا يكتب، وشاربه قد ملأ وجهه وعارضه، وظهرت الميوعة، والأنوثة، من شكله، ومن ملابسه، أسأل الله أن يهدينا، وأن يصلح شبابنا، وشباب المسلمين أجمعين!
أيها الآباء، أيتها الأمهات والأولياء، إني مذكِّر نفسي وإياكم بحقوق أولادكم عليكم، فأعيروني أسماعكم وأوسعوا لكلامي صدوركم؛ فإن الله سائلكم عنهم.
ولكن قبل عرض الحقوق التي تجب علينا تجاه أولادنا، نقول: إنه لا يوجد في تربيتهم وسيلة ناتجة، ومؤثرة ومثمرة في تحقيق تربية أولادنا، مثل أن نجعل من أنفسنا أنموذجًا حيًّا، وواقعا ملموسًا أمامهم.
قال عتبة بن أبي سفيان رحمه الله لمؤدب ولده: «ليكن أولُ إصلاحِك ولدي إصلاحَك لنفسك، فإن عيونَهم معقودةٌ بك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت».
تعجب من بعض الآباء حين يريد من ولده أن يكون صادقًا في حديثه، وتعامله وغير ذلك، لكنه يتعامل أمامه بالكذب، والخداع وإخلاف الوعود، وما أشبه ذلك!
يأتيه أحد ليبحث عنه، ويطرق باب بيته، فيقول الأب لأولاده، أو لأحد أولاده: قل له: ليس بموجود! فيذهب الطفل ببراءة الطفولة، ويقول له: قال لك أبي: إنه ليس بموجود، والله المستعان، يعد الزوج زوجته، وأولاده أن يفعل لهم كذا وكذا، أو يشتري لهم شيئًا، ومع ذلك يكذب في كلامه، ويخلف في وعوده.
يطلب الأب من ولده أن يكون محافظًا على صحته، وماله، ومع ذلك تراه يدخن، ويخزن بالآلاف – والعياذ بالله – بل لعله قد ملأ البيت بشم الدخان وربما قد تغير لون الجدران – نسأل الله العافية – يريد منه أن يصلي، وهو قاطع للصلاة، يريد منه أن يحفظ القرآن، ولا يُرى منه مس المصحف إلا في رمضان، وصدق ابن القيم – رحمه الله – حين قال في كلامه القيم: «إنك لو تأملت إلى عامة فساد الأولاد، لوجدته من قبل الآباء».
من خالفت أقوالُه أفعالَه *** تحولت أفعالُه أفعى له
أيها المسلمون عباد الله، إني مذكرٌ نفسي وإياكم بحقوق أولادكم عليكم، فأعيروني أسماعكم، وافتحوا لكلامي صدوركم، فإن الله سائلكم عنهم!
وموضوعنا هذا لا يعد فتحًا لباب جرأة الأولاد على الآباء، لا ولا، فحق الآباء عظيم، ولو لم يكن إلا أن الله قرن طاعتهم بطاعته، فقال سبحانه -: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23].
فأول حقوق ولدك عليك أيها الأب: – وفي المقام الأول – الاهتمام بدينه، وصلاحه، فانظر أين هو من دين الله تعالى، وخذ مثلًا على ذلك الصلاة التي هي عمود هذا الدين، هل تهتم به في صلاته؟ هل إذا دخلت المسجد جعلته بجوارك، أو سألت عنه، أو سألته أين صلى؟ هل إذا صليت الفجر وقمت إلى المسجد أخذته معك ليشهد هذه الصلاة التي لا يعرف قدرها إلا من تذوق حلاوتها، وعرف بركتها، وللأسف القلة من الناس هم الذين يشهدونها، ويؤدونها في وقتها، ومكانها. أين أنتم يا رجال الفجر؟ أين من يصلي الفجر منذ زمن وما رأيناه ولو يوما يأخذ معه حتى ولدًا من أولاده؟ من تنتظر أن يدفعه لصلاة الفجر إذا كنت أنت معه في بيت واحد، وكل يوم تخرج ولا تأخذه معك، وأنت تعلم أنك مسؤول عنه، وأنه سيكون – ربما – خصمًا لك بين يدي الله تبارك وتعالى.
كذلك من حق ولدك عليك: أن تنظر في أوقاته، أين يصرفها؟ وفيما يصرفها؟ نعم هذا من حقه عليك، أما أن تكون مثل بعض الناس يتعامل معهم، وكأنه غريب عنهم، من عمله إلى مأكله، إلى مقيله، فهذه – والله – حسرة عليك، ستتجرع غصصها في الدنيا قبل الآخرة، فلقد أصبحنا نرى محلات الإنترنت، والمقايل مكتظة بالصغار قبل الكبار – للأسف الشديد – وأصبح ابن سن العاشرة، والثانية عشرة، يقضي الساعات في محلات الإنترنت، والضياع، وأصبح الواحد من هؤلاء، في هذا السن يعرف استخدام الإنترنت، ويفعل له صفحة وموقعا – كما يقال – ولكن الأب ليس أبًا، لكنه في واد آخر، لا يدري عنهم شيئا، ولا يعرف لهم خبرًا، وأعظم، وأطم من قد عرف ذلك؛ لكنه ما حرك ساكنًا، «ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته».
إن من حق ولدك عليك أن تنظر في جلسائه من؟ وأولاد من؟ ما دام ولدك في يدك، وتحت قبضتك، فالصاحب ساحب، قبل الندم، قبل أن تمسخ فطرته، وتتغير أخلاقه، قبل أن تفجع فيه، وتسمع الأخبار المزعجة، والمؤلمة عنه، سله وأكثر عليه – خاصة – إذا كنت في بيئة سيئة، وكان أمرد وخفت عليه، فانظر في جلسائه، وهل هم في سنه؟ فقضية المردان قد ابتلي بها كثير من السَّفَلة، وأصبحوا يتتبعونهم إلى كل مكان- عافانا الله وإياكم.
إن من حق ولدك عليك أن تنظر إلى هدفه، وتوجهه في هذه الحياة، ما الأشياء التي يسعى إلى تحقيقها؟ وما الأهداف التي يريد أن يصل إليها، انظر في هدفه في هذه الحياة، وما الذي يريده فيها؛ لكي تعينه عليه، وترشده إليه.
ألسنا – بالله عليكم – نرى شبابًا في سن العشرين وأمنياتهم، وأهدافهم في أقدامهم، حديثهم، وأوقاتهم كلها، أو جُلها عن كرة القدم، وأخبار اللاعبين والمباريات، والأفلام والمسلسلات، ألسنا نرى شبابًا ما قد نبت شاربهم، ومع ذلك ينفخون وجوههم بالشجرة المخزية – شجرة القات التي دمرت الأجساد، والأموال، والأوقات – وذلك على مرأى ومسمع من آبائهم وأقربائهم، والله المستعان.
من حقه عليك – أيضًا- أن تنظر في ملابسه، وشكله، ومظهره، فقد ابتُلي بهذه الظاهرة وبهذا المرض كثير من الشباب، وأصبحت مظاهرهم محزنة، وأشكالهم مقززة، وبهيئة غربية لا إسلامية، إن جئت إلى شعره وجدته يقلد اللاعب اليهودي في قصته، وإلى بنطاله وجدته يقلد المغني النصراني في ملبسه، وربما في البيت الواحد عدة أولاد، وكل واحد قد تقمص له شخصية مزرية.
هذه مصيبة، وأي مصيبة، وتعظم هذه المصيبة يوم ترى آباء هؤلاء الشباب يسكتون عليهم وكأن الأمر لا يعنيهم، وهم يرون أشكالهم ومظاهرهم بأم أعينهم، والله إن القلب ليحزن يوم نرى مثل هؤلاء الشباب، ويشتد الحزن يوم ترى الآباء الذين تربوا على الرجولة، وعلى الفطرة السليمة، والملابس الإسلامية وهم يرون فلذات أكبادهم بهذه الحالة المزرية، وما كأنهم يعلمون قول النبي عليه الصلاة والسلام: «ما من عبد استرعاه الله على رعية، فأمسى غاشًّا لهم، إلا لم يرح رائحة الجنة».
وإذا أردنا أن نستشعر حقيقة هذه الظاهرة، وإلى انتشار قدر هذه المصيبة؛ فلننظر إلى رؤوس شبابنا في هذه الأيام، ولنتأمل إلى قصات شعور أولادنا وضيق ملابسهم في هذا الزمان! تأمل في نسبة الحلاقات الإسلامية، والحلاقات الغربية الغريبة، فقد لا تكاد تجد في الحي الواحد من يحلق الحلاقة المستوية إلا القلة القليلة؛ نسأل الله أن يصلح شبابنا، وشباب المسلمين أجمعين!
من حق ولدك عليك – وهذا من أهمها، وأخطرها – وكان حقه أن تفرد له خطبه لوحدها ليسمعها الآباء الذين لا تُرى وجوههم إلا في الجمعات، والاجتماعات، ألا وهي قضية الجوالات التي دمرت الشباب والفتيات، وظهرت بسببها الفواحش، والمنكرات، فلقد – والله – توالت الأخبار المزعجات، كثرت جرائم القتل، والفواحش، والموبقات بشكل لم يعهد، ولم يسبق، وكل ذلك بسبب مشَاهد الدعارة التي تشاهد من قِبل الشباب والشابات، بالله عليكم – أيها الناس – من كان من وراء جرائم الزنا والقتل التي انتشرت في السنوات، والأشهر الماضية، إلا مقاطع الجنس المتداولة؟! من كان من وراء الاختطافات، والاغتصابات التي تدمي القلب، وتحرق الدم، إلا المراسلات بين الشباب، والشابات؟!
فقل لي بربك: هل نظرت يومًا إلى جوال ولدك، وفلذة كبدك، وفتحت ملفاته، ومقاطعه؟ هل فكرت يومًا حين يظل ولدك الساعات أمام جواله؟ ما الذي يشاهده؟ ولماذا يخرج من البيت يظل واقفًا ومرجومًا بالشوارع أمام تلك الشبكات – لا بارك الله فيها – ولا أظن أن أصحابها سيسلمون من الآثام، والأوزار التي تحصل من ورائها، أسألكم بالله أيها الآباء ما هو الداعي لولدك، أو ابنتك عندما تمتلك جوالًا خاصًّا بها، باستطاعتها، وبلمسة يدها أن ترى الفواحش بأقبح، وأقذر صورها؟ من الذي سيتصل بها، وأي مصلحة، أو أي فائدة تستفيدها أمام تلك المفاسد التي تلاحقها، وتحرق أخلاقها؟ فكم هن الفتيات اللاتي بدأنا يسبحن في مستنقع العشق، والمغازلات – وللأسف – قد نُبِّه بعض أولياء هؤلاء الشابات بأن ابنتك تفعل كذا، ورُئيت مع فلان وفلان في وقت كذا، ويقول الناصح في نفسه قبل أن يُخبر بعض أشباه الرجال على ابنته أنه سيفعل بابنته كذا، وكذا، لعله سيقتلها، سيشبعها ضربًا وسيهينها، وأقل أحواله معها أنه سيمنعها من خروجها من بيتها، أو يأخذ جوالها من يدها الذي كان سببًا في ربط العلاقات، وتحديد اللقاءات مع غيرها، هكذا يحدث الناصح نفسه بناءً على ما تعودنا وتربينا من الغيرة التي قد كانت تدب في آبائنا، وأجدادنا، حتى كانوا يقولون: القبر ولا العار.
وهكذا يقدم الواحد رجلًا، ويؤخر أخرى هل يكلم أباها، أو يسكت على هذا المنكر الذي يلحق عاره على الأسرة، والقبيلة بأجمعها، وربما على المنطقة كلها، لكن الغيرة في بعض أهل النخوة، والرجولة قد تدفعه إلى أن يخبر بعض أشباه الرجال بأخبار ابنته، وما الذي يحصل لعرضه، وأهل بيته فيا ترى ماذا سيفعل بعض السفلة من هؤلاء، وأمثاله من أصحاب الغِيرة الباردة الميتة؟ بعضهم يهز رأسه معبرًا عن استنكاره، وعدم رضائه، والبعض قد يُكذب من جاء ينصحه، ويتهمه بالطعن في عرضه، وشرفه، وأعظم، وأحقر من هذا وذاك من يتكلم، أو ينهر من كلمه بذلك باعتباره تدخُّلًا بخصوصيات أهله، وهكذا.. وبعد كل هذا كأن أمرًا لم يكن، تخرج البنت من بيتها وما زالت بلباسها، وجوالها ما زالت تحمله في حقيبتها، وعشاقها، وأصحابها ما زالوا يصحبونها، ويلاحقونها، ولعلهم يزيدون على ذلك فيجعلون أصحابهم يتعرفون عليها وغير ذلك، وما هو فوق ذلك.
وإذا الأخلاق قد ولى ذووها *** فقل يا موت مربنا سريعا
فإلى كل من قد مات ضميره، وتبلَّد إحساسه، فلم يعد معه نخوه الرجولة، ولا إباء ذوي المروءة، اسمع إلى جائزتك، وإلى جزائك يقول عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة حرم الله عليهم الجنة…. وذكر منهم الديوث الذي يقر الخبث في أهله».
ختاما أيها المسلمون، لا ننسَ ونحن في صدد عرض حقوق أولادنا علينا، أن نلفت النظر إلى أن اختيار الزوج، أو الزوجة، سبب عظيم في صلاح الأولاد أو فسادهم، وأن أخلاق وطبائع الوالدين تنعكس على الأولاد، شعر الإنسان أم لم يشعر:
بابه اقتدى عدي في الكرم *** ومن يشابهْ أَبَهْ فما ظلم
ثم لنعلم – في ختم الختام- أن لكل مجتهد نصيبًا، ومن جد وجد، ومن زرع حصد، وأن الآباء الذين يجتهدون في تربية أولادهم، ويضحون بأموالهم وأوقاتهم؛ لن يعدموا خيرًا، ولن يذهب تعبهم هدرًا، بل سيجنون الثمار الطيبة، ويذوقون حلاوتها، ويسعدون بها، وسيطعمون من كسب أولادهم وهم في بيوتهم وعلى فرشهم، وأعظم من ذلك كله أن يرفع الله درجاتهم بعد موتهم؛ بسبب استغفار أولادهم لهم، وبالمقابل من فرط في تربية أولاده بإهمالهم، وإهمال الرقابة عليهم، وسلمهم للذئاب البشرية ومحلات الإنترنت لتحتضنهم ولتربيهم؛ فهذا الذي على نفسه جنى، ولحياته هدم وما بنى، هذا الذي سيأتي عليه يوم يتجرع فيه الغصص والآلام، واللوم والوبال، جزاء التغافل والتقصير والإهمال الذي كان منه تجاه أولاده.
هذا الذي سيُطَأطِئ رأسَه، ويندى جبينه، بتصرفات، وأفعالِ ولده، هذا الذي سيأتي عليه يوم لا يهنأ فيه بطعام، ولا يغمض فيه بمنام، يوم يُقال له: ولدك فعل كذا، وارتكب كذا، وأخذ كذا، يمر عليه يوم يود لو يخرج من هذا المكان، بل ومن هذا البلد الذي يسكن فيه، يود أنه ما عرف ذلك اليوم الذي بشر في هذا الولد، هذا الذي سيأتي عليه يوم يتمنى فيه لقمة من تسد من جوعته، ويكفيه مؤنة بيته وعائلته، بعدما كبِر سنه، وانحنى ظهره، ورق عظمه، هذا إن سلم من الشتم والنهر والسب والقهر، بل ربما الضرب – والعياذ بالله – فكم نسمع من كثير من الآباء – هدانا الله وإياهم – يئنون من أولادهم من عقوقهم، من سوء أخلاقهم، من بخلهم، من قسوتهم، بل حتى من سطوتهم، ومد أيديهم عليهم، كم نسمع – كثيرًا – ونحن نمشي في طريقنا، أو نسمع من أقاربنا، وجيراننا أن فلانًا شتم أباه وسبه، وسب شكله وأصله، وربما يقال: كان يريد ضربه لولا لطف الله بخروج الجيران.
فإلى كل من يشكو من أولاده، ويذوق الويل والمُر من سوء تربيته وإهماله؛ ألم تسأل نفسك يومًا: ما وولدك يسبك، ويشتمك، ويهددك؟ كيف كانت تربيتي لولدي؟! وأين كانت أوقاتي أثناء عمر وشباب ولدي؟ هل علمتُه؟! هل أدبتُه؟! هل ربيته، واجتهدت في تربيته؟!
نعم، سل نفسك أيها الأب: هل عرفتَه بحق الله ليعرف حقك؟! فحقك من حق الله، وإذا عرف حق الله فسيعرف حقك، وأقسم بالله إن كثيرًا من هؤلاء الآباء الذين يعانون، ويشكون من أولادهم، ومن سوء أخلاقهم، وانحرافهم، وبخلهم، أن لهم دورًا كبيرًا في فساد أولادهم، فقد جاء رجل إلى أحد العلماء يشكو أن ولده ضربه في وجهه – والعياذ بالله – فقال له العالم: هل علمته وأدبته؟! قال: لا، قال العالم: أنت السبب، وأنت الذي جنيت على نفسك، فألقِ باللوم على نفسك لا على ولدك!
ولا نريد ونقصد من هذا الموضوع أن نُحْزن به كثيرًا من الآباء من الذين قد عرفوا بين الناس بتربية أولادهم، وبذل اجتهادهم، ولكن أخلاق أولادهم جاءت منعكسةً، ومخالفة لتربية آبائهم، معاذ الله أن نقصد هذا، ونريد هذا, لكن كلامنا هو عن التربية، وعن الاجتهاد في التربية؛ ليعذر الأب بولده عند رب البرية، وإلا فلله الأمر من قبل، ومن بعد، فالهداية – أيها الآباء – لا تنال بالوراثة، ولا بالحسب ولا بالذكاء، وإنما هي اصطفاء، يصطفي الله بها من يشاء، فقد يخرج الله المسلم من الكافر، والصالح من الفاجر، يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، ولا يسأله سائل عن فعله, ولنا في الصالحين، والأنبياء، والمرسلين في هداية أولادهم عظة وعبرة.
أسأل الله بمنِّه وكرمه أن يصلح شبابنا، وشباب المسلمين أجمعين!
[1] رواه البخاري (5188)، ومسلم (1829).
[2] رواه أبو داود (495).
[3] رواه الترمذي (2516).
[4] رواه مسلم (1631).
__________________________________________________
الكاتب: يحيى بن حسن حترش
Source link