رحلة الإنسان – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “وإنما يشتد على العبد البلاء إذا غاب عنه ملاحظة الثواب”.

الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وخلق الزوجين الذكر والأنثى، وأرانا في خلقه وأمره شيئًا من عظمته، وأرانا في آياته ما يدل على وحدانيته، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله السراج المنير، والبشير النذير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والنهى، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الملتقى، أما بعد:

التقوى جماع الخير كله؛ لذا تكرر في القرآن والسنة الأمر بها، فهي سبيل الرشاد والفلاح في الدنيا والآخرة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا ‌قَوْلًا ‌سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].

 

حديث النفس للنفس مؤثر ونفيس، وكاشف للأمر على الوجه الصحيح، وقادر بعد توفيق الله على رؤية الحقيقة، ومِن ثَمَّ التصحيح، اليوم نتكلم عن رحلة إنسان في هذه الدنيا.

 

ذلك الإنسان عاش دهرًا من الزمان، وقد تكون أنت عشت فصلًا من فصول قصته لحظةً بلحظة فأرهِف وجدانك، واجعل نفسك مكان صاحبنا، فهو يذكر أمه وتعلقه بها، منذ أن حطت أقدامه الثرى، ولا تسل عن حب أُمٍّ لولدها، ويذكر شفقة أب أبعدت عنه مشكلات الحياة، فرأى في أبيه القدرة على كل شيء، فأبوه عنده يملك كل شيء، ولا يعجزه شيء، فأصبح لا يتخيل حياته بدونهما، فهما كالظل يستظل بظلهما، ويهنأ بالعيش معهما، ويرى نجاحه في عيونهما، وأثر توفيقه بدعواتهما، ولكن سنة الله في خلقه ماضية، فارق الوالدان صاحبَنا، فأظلمت الدنيا في وجهه، وتجرَّع مرارة الفِراق، اللهم فارحم آباءنا وأمهاتنا كما ربونا صِغارًا.

 

عاش صاحبنا مع إخوته وأقرانه عيش النفس للنفس، فلا يفترقوا إلا مع موعد باللقاء قريب، فسلَّى وجود الإخوة والأصحاب مرارة فقد الأبوين.

 

ولكن سنة الله ماضية، فافترق الإخوة والأصحاب، وأشغلتهم الدنيا، كما أشغلت صاحبنا، وقد بقي من الود والاحترام ما بقي، ولكن ربما تباعدت اللقاءات، وافترقت الهموم.

 

عاش صاحبنا منشغلًا بزوجه وولده، وكانت اللحمة بينهم قوية، ولا تسل عن حب أب لبنيه وبناته، تعلق بهم، ففرح لفرحهم، وحزن لحزنهم، نجاحهم نجاح له، وتفوقهم تفوق له.

 

ثم كبر البنون والبنات، فتزوَّجوا، وأنجبوا، وتفرقت بهم الدُّور والبلدان، فأصبح مرور بعضهم على والديهم مرور الضيفان.

 

كبر في السن صاحبنا، فأصبح في كل يوم يسمع مرض صاحبٍ له، فيتقطع قلبه حسرةً على صاحبه، وربما بعد فترة يموت، فيشعر بأن جزءًا منه قد فقد، فيشعر بقرب وفاته، فيعود بشريط ذكرياته لأيام مضت وأعوام خلت.

 

أنا هنا لا أدعو للخمول والوحدة؛ ولكن أريد أن أكشف الحقيقة، فرحم الله كل والد ووالدة مشيا على الثرى، ورحم الله أخًا قام بحق الإخوة، ورحم الله عالمًا نهلنا من علمه، وأستاذًا صبر على تعليم تلميذه، ورحم الله أديبًا استفاد الناس من أدبه، وأنت أنت ماذا قدمت ليترحم الناس عليك؟!

 

تلك الرحلة هي رحلتي ورحلتك في هذه الدنيا، وإن اختلفت بعض الفصول.

 

عباد الله، استمعوا لنداء الله حين يناديكم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ ‌وَعْدَ ‌اللَّهِ ‌حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [فاطر: 5].

 

فالحياة كل شيء فيها إلى أُفُول: {كُلُّ ‌مَنْ ‌عَلَيْهَا ‌فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26-27].

 

فالأيام والليالي يتعاقبان فما يبتدآن إلا وينتهيان، والمواسم يعقبها مواسم، وما أسرع انقضاء الأعمار، وستؤول القوة إلى الضعف، والصحة إلى المرض، والحياة إلى الموت.

 

وجميع الصلات مهما توثقت فهي إلى انقطاع في هذه الدنيا وانفصام؛ فقد تنفصم بالبعد، وقد تنفصم بتغيُّر الأحوال والأماكن، وقد تنفصم بالموت، الصلة الوحيدة الباقية هي علاقة العبد بالله فهي دائمة لا تنفك عنك طوال عمرك.

 

فيا عجبًا لعبد يوثق علاقات مؤقتة، ويترك علاقته بالحي الذي لا يموت {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي ‌لَا ‌يَمُوتُ ‌وَسَبِّحْ ‌بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58].

 

كيف لا توثق علاقتك بربك الذي ربَّاك وتفضَّل عليك بالنعم؛ فخلقك من العدم، وهداك للإسلام، وأرسل إليك خير الأنام محمدًا عليه الصلاة والسلام، فأبان لك الطريق، وسهَّل لك السبيل، فإن تقربت من ربك تقرَّب إليك، وإن دعوته أجابك، وإن استعذته أعاذك، وإن استعنت به أعانك، وكلما تقربت إليه سَمَت روحُك فذاقت حلاوة الإيمان، وارتقيت في سُلَّم الولاية التي تحيطها العناية الإلهية.

 

حتى إن داهمتك الأحزان، ساق الله لك السلوان؛ لاستصحابك الرضا من الرب الرحمن، واهب الأجور للصالحين الصابرين.

 

حُكي عن امرأة عابدة عثرت فانقطعت أصبعها، فضحكت، فقيل لها: مِمَّ تضحكين؟ قالت: حلاوة أجرها أنستني مرارة قطعها، ما أعظم حياة الآخرة في قلوبهم.

 

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “وإنما يشتد على العبد البلاء إذا غاب عنه ملاحظة الثواب”.

 

عبد الله، إذا جعلت رضا الله همَّك، فعملت بما شرع ربك، كفاك الله همَّك، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت الآخرةُ همَّه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما قدر له»؛ (رواه الترمذي).

 

عبدالله، إذا وثقت صلتك بالله العظيم أحبك الله، وحبَّب لك أهل السماء والأرض؛ فقويت صلتك بأهل الأرض، وقبل ذلك بأهل السماء، وأشرفها وأجلها علاقتك بالله، فحصلت على مبتغاك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله: «إذا أحَبَّ اللهُ العبدَ نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض»؛ (البخاري).

 

عبدالله، إن من تربية الله لعبده أن يبتليك بالأذى ممن حولك حتى لا يتعلق قلبك بغيره.

 

ومن تربية الله لك أن يستخرج من قلبك عبودية الصبر والرضا، وتمام الثقة به، وهل أنت راضٍ عنه لأنه أعطاك، أو لأنك واثق أنه الحليم الرحيم.

 

ومن تربية الله لك أنه قد يمنع عنك رزقًا؛ لأن هذا الرزق ربما أفسد عليك دينك، وقد ينغص عليك نعمة كنت متمتعًا بها؛ لأنه رأى قلبك أصبح مهمومًا متعلقًا بها.

 

من تربية الله لك أن يطيل عليك البلاء، ويريك خلاله من اللطف والعناية وانشراح الصدر ما يملأ قلبك معرفة به حتى يفيض حبه في قلبك.

 

ومن تربية الله لك: أن يعجل لك عقوبته على ذنوبك حتى تعجل أنت التوبة فيغفر لك.

 

ومن علامات توفيق الله لك:

دخول أعمال البر عليك من غير قصد لها، وصرف المعاصي عنك مع الطلب لها، وفتح باب اللجوء والافتقار إلى الله عز وجل في الشدة والرخاء.

 

فيالسعادة من وثق علاقته بالله العظيم، فيكسب الدين والدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي ‌لَا ‌يَمُوتُ ‌وَسَبِّحْ ‌بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58].

 

عباد الله، إن مشكلة كثير من الناس اليوم أنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ ‌كَتَبْنَا ‌فِي ‌الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].

 

الله سبحانه وتعالى أراد منا عمارة الأرض، فما هو عمل اليوم والليلة عندك، عبدالله، لِمَ نمضي حياتنا في تتبُّع لقاءات الناس، ونخشى على أنفسنا من أنفسنا، فأثقل الأوقات علينا التي نخلو بها بأنفسنا، فيا عجبًا! هل نفسي أنا عدوة لي، حتى أضيق بها ذرعًا إذا خلوت بها؟!

 

يا أخي، فراغك هو عمرك، فهل يليق بعبد مؤمن بلقاء الله أن يقضي عمره بقراءة رواية سخيفة، أو مشاهدات لا فائدة من ورائها، أو اجتماع لا منفعة منه لا في دنيا ولا دين.

 

يا عباد الله، نخشى أن تقع هذه الآية فينا: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ ‌فَأَنْسَاهُمْ ‌أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19].

 

اللهم أرنا الحق حقًّا، وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه.

 

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

_______________________________________________________
الكاتب: الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح دعاء الهم والحزن – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ، والبُخْلِ والجُبْنِ، وضَلَعِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *