السهر والسمر بين المشروع والممنوع

سبحانه جعل الليل محلاً للنوم والراحة، والنهار للعمل والكسب، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}

فإن مما ابتُليَ به أهلُ هذا الزمان، ما فُتحَ عليهم من أبواب الترفيه والتسلية والملهيات وأساليب الحياة التي تحوَّل بها ليلُ كثير منهم إلى نهار، يسهرون أغلبه وينامون أقله، ولم يعد لهم من منافعه ما كان لسابقيهم من أهل الإيمان وسلف الأمة الصالحين.

ولما كان أكثرُ الناس يضيع ليلُه في غير قربة، أحببنا أن نبين حكم السهر والسمر والحديث بعد العشاء، وهل هو محمودٌ أم مذموم، أو ممنوع أم مشروع؟

وقد اختلف الآراء في حكم السهر والسمر “وهو الجلوس للحديث” بعد صلاة العشاء، وذلك أنه وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وآثارٌ عن الصحابةِ والسلف تنهَى عن السمرِ بعد العشاء، وأتت أحاديثُ أخرى وآثارٌ تدل على جواز ذلك، وتثبت فعلَ النبي صلى الله عليه وسلم له، وكذلك جماعة من السلف.

أحاديث النهي والمنع:
فمما ورد في المنع منه، ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي بَرْزَةَ رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا).
وهذ الحديث أصل في هذا الباب، وقد ذكره العلماء وترجموا لأبوابه بما يدل على كراهة ذلك:
فبوب الترمذي في جامعه: “باب ما جاء في كراهية النوم قبل العشاء والسمر بعدها”. وبوب الإمام أبو داود في سننه: “باب النهي عن السمر بعد العشاء”. وكذلك ابن ماجة في السنن: “باب النهي عن النوم قبل صلاة العشاء وعن الحديث بعدها”، وبوب النووي في رياض الصالحين: “باب كراهة الحديث بعد العشاء الآخرة”.

وقد أخذ العلماء من هذا الحديث كراهية السهر والسمَر بعد صلاة العشاء، وإن كان في الأمور المباحة.

قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: “وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى كَرَاهَة الْحَدِيث بَعْدهَا إِلَّا مَا كَانَ فِي خَيْر”[5/146].

وقال الحافظ ابن رجب: “ومتى كان السمر بلغو، ورفث، وهجاء، فإنه مكروه بغير شك”. انتهى ” فتح الباري”[3/377].

ومن الأدلة أيضا: ما رواه أحمد في مسنده وابنُ ماجة في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما نام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ قبلَ العشاءِ، ولا سمَر بعدَها).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والسمر بعد هدوء الليل؛ فإن أحدكم لا يدري ما يبث الله من خلقه، …» الحديث) (أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني). وفي رواية المستدرك «إياك والسمر بعد هدأة الليل؛ فإنكم لا تدرون ما يأتي الله من خلقه» (صححه الحاكم ووافقه الذهبي وحسنه الألباني).
وجاء في مسند أحمد وسنن ابن ماجة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جدب إلينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم السمر بعد العشاء). قال خالد – هو أحد الرواة -: معنى جدب إلينا يقول: عابه وذمه.

وممن ورد عنه النهيُ أيضا من الصحابة رضوان الله عليهم: الخليفةُ الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فعَنْ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ: (يَا سَلْمَانُ، إِنِّي أَذُمُّ لَكَ الْحَدِيثَ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَتَمَةِ). وفي رواية له أخرى قَالَ: (كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَجْدُبُ لَنَا السَّمَرَ بَعْدَ صَلاَةِ النَّوْمِ) (أخرجهما ابن أبي شيبة في مصنفه).

وعن خرشة بن الحُرِّ الفزاري قال: رأى عمر بن الخطاب قوما سمروا بعد العشاء ففرق بينهم بالدرة فقال: “أسَمَرًا من أوله ونومًا من آخره” (أخرجه عبد الرزاق في المصنف).

وكذلك نهت عنه عائشة أم المؤمنين، فعن عروة قال: سمعتني عائشةُ رضي الله عنها وأنا أتكلم بعد العشاء الآخرة. فقالت: “يا عُرَىُّ ألا تريح كاتبَيك؛ فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ينامُ قبلَها، ولا يتحدثُ بعدها).

وروي عن سلمان رضي الله عنه وعن حذيفة: فأما سلمان فيروى عنه قوله: “إِيَّاكُمْ وَسَمَرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ مَهْدَنَةٌ، أَوْ مُذْهِبَةٌ لآخِرِهِ”.

وأما حذيفة فعن إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى حُذَيْفَةَ، فَدَقَّ الْبَابَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ حُذَيْفَةُ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ ؟ فَقَالَ: جِئْت لِلْحَدِيثِ، فَسَفَقَ حُذَيْفَةُ الْبَابَ دُونَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ جَدَبَ لَنَا السَّمَرَ بَعْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ أخرجهما ابن أبي شيبة، وفيهما مقال.

قال الشيخ الألباني رحمه الله: “واعلم أن السمر- وهو التحدث في الليل- منهيٌّ عنه في غير ما حديث عنه – صلى الله عليه وسلم” (انظر السلسلة الصحيحة).

سبب النهي والمنع:
وأما سبب الكراهة وعلة النهي، فقد بينها العلماء.. فمن ذلك:
أولا: الخوف من تضييع صلاة الليل، وفوات صلاة الفجر:
قال النووي: “وَسَبَب كَرَاهَة الْحَدِيث بَعْدهَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى السَّهَر، وَيُخَاف مِنْهُ غَلَبَة النَّوْم عَنْ قِيَام اللَّيْل، أَوْ الذِّكْر فِيهِ، أَوْ عَنْ صَلَاة الصُّبْح فِي وَقْتهَا الْجَائِز، أَوْ فِي وَقْتهَا الْمُخْتَار أَوْ الْأَفْضَل”(شرح مسلم:5/146).

وقال الحافظ ابن حجر: “وَالسَّمَر بَعْدَهَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى النَّوْم عَنْ الصُّبْح، أَوْ عَنْ وَقْتهَا الْمُخْتَار، أَوْ عَنْ قِيَام اللَّيْل. وَكَانَ عُمَر بْن الْخَطَّابِ يَضْرِب النَّاس عَلَى ذَلِكَ وَيَقُول: “أَسَمَرًا أَوَّلَ اللَّيْل وَنَوْمًا آخِرَهُ ؟”. “فتح الباري”[2 / 73].

ثانيا: مخالفة سنة الله في خلقه:
فإنه سبحانه جعل الليل محلاً للنوم والراحة، والنهار للعمل والكسب، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}[يونس:67] . وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}[النبأ:10ـ11] ففي الليل سكينة وقرار ونومٌ وراحة، وفي النهار نشاط وعمل، وسعي وجد.
قال القرطبي: “وقد قيل: إن الحكمة في كراهية الحديث بعدها أن الله تعالى جعل الليل سكناً، أي يُسكن فيه، فإذا تحدث الإنسان فيه فقد جعله كالنهار الذي هو متصرف المعاش، فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة الله تعالى التي أجرى عليها وجوده”. انتهى من ” تفسير القرطبي”[12/ 138].

ثالثا: الكسل وتضييع المصالح والحقوق:
لأن في السهر إتعابَ البدن وإرهاقَه، فيؤدي إلى الكسل والوخم بالنهار.. قال الإمام النووي: “وَلِأَنَّ السَّهَرَ فِي اللَّيْل سَبَب لِلْكَسَلِ فِي النَّهَار عَمَّا يَتَوَجَّه مِنْ حُقُوق الدِّين، وَالطَّاعَات، وَمَصَالِح الدُّنْيَا” (شرح مسلم: 5/146).

وقال الإمام الشوكاني: “ولا أقلَّ لمن أمن من ذلك (أي مما فات ذكره من مكروهات السهر) لا أقل له من الكسل بالنهار عما يجب من الحقوق فيه والطاعات”.

رابعا: نوم أول النهار وتضييع بركة البكور:
كما قال الشيخ ابن عثيمين: “…. ثم ينام في أول نهاره عن مصالحهِ الدينية والدنيوية، والنوم الطويل في أول النهار يؤدي إلى فوات مصالح كثيرة، وقد جرب الناس أن العمل في أول النهار أبرك من العمل في آخر النهار، وأنه أسد وأصلح وأنجح، فإن البكور مبارك فيه”. (اللقاء الشهري:1 / 333).

خامسا: كراهة أن ينام على لغو:
قال ابن حجر: “ومنهم من علل بأن الصلاة ينبغي أن تكون خاتمةَ الأعمال، فيستحب النوم عقيبها، حتى ينام على ذكر، ولا ينام على لغو”.

وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار: أما الكلام الذي ليس بقربة إلى الله عز وجل، وإن كان ليس بمعصية، فهو مكروه حينئذ لأنه مستحب للرجل أن ينام على قربة وخير وفضل يختم به عمله، فأفضل الأشياء له أن ينام على الصلاة فتكون هي آخر عمله.

سادسا: العطالة وقلة الإنتاج:
فسهر الليل يؤدي إلى تعب البدن فيحتاج إلى الراحة بالنهار، فيقعد عن الضرب في الأرض والخروج للعمل، فتكون البطالة.. وربما كان صاحبَ عمل ووظيفة فيقل إنتاجه، ويضعف أداؤه، وهي خسارة اقتصادية له ولمجتمعه، وربما يخسر وظيفته.. وقد يكون في موقع لقضاء معاملات الجمهور فيؤخرها أو يعطلها فتختل معاملات الناس.

آثار صحية وطبية سلبية:
وقد تحدث المتخصصون في الطب والصحة النفسية، أن الدوام على السهر، خصوصا أمام الشاشات للألعاب الإلكترونية، أو مشاهدة الأفلام وغيرها، يؤدي إلى أضرار صحية تؤثر على بدن الإنسان وتركيزه، وربما تؤدي إلى الاكتئاب والتوتر وزيادة الضغط النفسي.

ما يباح من السمر والسهر:
غير أن السهر والسمر إنما يكره ما لم تكن فيه مصلحة، وهذا ما ورد في كلام العلماء .. فمن ذلك:

السهر في مصالح المسلمين:
لما رواه الترمذي عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه قال: (كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَسمُرُ مع أبي بَكْرٍ في الأَمْرِ من أَمْرِ المُسلِمينَ وأنا معهما).

السمر لمصلحة سفر أو صلاة:
لما ورد عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا سمر إلا لمصل أو مسافر» (رواه أحمد والترمذي). قال عنه الألباني في السلسلة الصحيحة: حسن صحيح، وله شاهد عن عائشة مرفوعاً بلفظ: “لا سمر إلا لثلاثة مصل أو مسافر أو عروس”. وإسناده حسن.

وذلك أن المسافر يحتاج إلى ما يدفع النوم عنه، ليسير ويقطع الطريق فأبيح له السمر، وكذا المصلي يحتاجه أحيانا حتى لا ينام ويكمل صلاته.

السهر لعبادة وطاعة:
قال الله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]. وقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}[الإسراء:79].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر) (متفق عليه).

وروى الطحاوي في شرح معاني الآثار، عن أبي سعيد مولى الأنصار قال: “كان عمر لا يدع سامراً بعد العشاء، يقول: أرجعوا لعل الله يرزقكم صلاة أو تهجداً. فانتهى إلينا وأنا قاعد مع ابن مسعود وأبيِّ بن كعب وأبي ذر، فقال: ما يقعدكم؟ قلنا: أردنا أن نذكر الله، فقعد معهم”.

السهر لمدارسة العلم وحفظه:
وأفضل ما يدرس من العلم القرآن الكريم، وقد ورد في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: (كَانَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ حِيْنَ يَلْقَاهُ جِبْريلُ، وَكَانَ جِبْريلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ) (متفق عليه).

وبوب البخاري في صحيحه، في كتاب العلم، باب: السمر في العلم. وذكر فيه حديثَ ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم العشاء، ثم جلس فحدثهم.

وجاء عن مجاهد قال: “لا بأس بالسمر في الفقه” (مصنف ابن أبي شيبة وسنن الدارمي).

وقال سفيان الثوري: “كان يقال: لا سمر بعد العشاء، إلا لمصل، أو مسافر. قال: ولا بأس أن يكتب الشيء، أو يعمل بعد العشاء” (فتح الباري لابن رجب).

السمر لمؤانسة ضيفه أو أهله:
وقد بوب بهذا البخاري رحمه الله في صحيحه.. وذكر حديث ضيف أبي بكر، وما وقع له معهم، وما بارك الله في طعامه حتى ربا وكثر.
ويدل عليه أيضا ما ثبت في الصحيحين من حديث أُمِّ المُؤْمِنِينَ صَفِيَّةَ بنتِ حُيَيٍّ رَضيَ اللهُ عَنها، قالتْ: (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفاً، فَأَتَيْتُهُ أزُورُهُ لَيْلاً، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي… الحديث).

والخلاصة:
إن السمر بعد صلاة العشاء إذا كان في اللغو واللهو وما لا يفيد من الأقوال والأفعال – وإن كان مباحا وليس بمعصية – فهذا مكروه، لما قد يترتب عليه مما سبق ذكره، وإن كان السمر في طاعةٍ لله تعالى كالصلاة، وقراءة القرآن، ومدارسة العلم الشرعي، والبحث في شؤون المسلمين، ومؤانسة الزوجة والأهل والأضياف، أو ونحو ذلك فهو طاعة وقربة.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *