من مثل القرآن في حسن النظم، وبديع الرصف، وعجيب السرد، وغرابة الأسلوب وإيجازه وإتقان معانيه.
{بسم الله الرحمن الرحيم}
يقول تعالى في سورة البقرة:
{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}
{{وَإِن كُنتُمْ}} الخطاب لمن جعل لله أنداداً {{فِي رَيْبٍ}} “الريب” يفسره كثير من الناس بالشك؛ ولا شك أنه قريب من معنى الشك، لكنه يختلف عنه بأن “الريب” يُشعر بقلق مع الشك، وأن الإنسان في قلق عظيم مما وقع فيه الشك؛ وذلك لأن ما جاء به الرسول حق؛ والشاك فيه لا بد أن يعتريه قلق من أجل أنه شك في أمر لا بد من التصديق به؛ بخلاف الشك في الأمور الهينة، فلا يقال: “ريب”؛ وإنما يقال في الأمور العظيمة التي إذا شك فيها الإنسان وجد في داخل نفسه قلقاً واضطراباً.
{{مِّمَّا نَزَّلْنَا}} أي القرآن، وفيه إثبات علوّ الله عزّ وجلّ؛ لأنه إذا تقرر أن القرآن كلامه، وأنه منزل من عنده لزم من ذلك علوّ المتكلم به؛ وعلو الله عزّ وجلّ ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة؛ وتفاصيل هذه الأدلة في كتب العقائد؛ ولولا خوض أهل البدعة في ذلك ما احتيج إلى كبير عناء في إثباته؛ لأنه أمر فطري؛ ولكن علماء أهل السنة يضطرون إلى مثل هذا لدحض حجج أهل البدع.
{{عَلَى عَبْدِنَا} } لم يصرح هنا باسم هذا العبد الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، وصرح باسمه في موضع آخر وهو قوله: {{وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ}} [محمد:2]، صلوات الله وسلامه عليه.
والله تبارك وتعالى وصف رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالعبودية في المقامات العالية: في بيان تكريمه بإنزال القرآن كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1]، وقال تعالى: {{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا}} [الكهف:1]، وقال تعالى: {{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}} [الحديد:9]
وفي بيان تكريمه بالإسراء والمعراج، كما قال تعالى: {{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}} [الإسراء:1] وقال تعالى: {{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}} [النجم:10]
وفي الدفاع عنه هذه الآية {{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ}} وقوله تعالى: {{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} } [الزمر:36]
و “العبودية”: هي التذلل للمحبوب والمعظم. والعبودية لله عزّ وجلّ هي غاية الحرية؛ لأن من لم يعبد الله فلا بد أن يعبد غيره؛ فإذا لم يعبد الله عزّ وجلّ -الذي هو مستحق للعبادة- عَبَدَ الشيطان، كما قال ابن القيم رحمه الله.
فأفضل أوصاف الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي العبودية والرسالة؛ ولهذا قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(لا تُطْرُونِي [مُجَاوزَة الْحَد فِي الْمَدْح وَالْكذب فِيهِ]كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)» [مالك في الموطأ]؛ وعن أبى هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتى بهدية فلم يجد شيئا يضعها عليه قال ضعها على الحضيض [يعنى الأرض] ثم نزل يأكل ثم قال: «(إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأشرب كما يشرب العبد)» [الديلمي]
وفي ذكر هذه الآية المتعلقة برسالة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إشارة إلى كلمتي التوحيد؛ وهما شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ لكن شهادة أن لا إله إلا الله: توحيد القصد؛ والثاني: توحيد المتابعة؛ فكلاهما توحيد؛ لكن الأول توحيد القصد بأن يكون العمل خالصاً لله؛ والثاني توحيد المتابعة بأن لا يتابع في عبادته سوى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإذا تأملت القرآن وجدت هكذا: يأتي بما يدل على التوحيد، ثم بما يدل على الرسالة؛ ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ} } [المؤمنون:68]، ثم قال تعالى: {{أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}} [المؤمنون:69]؛ وهذا مطَّرد في القرآن الكريم.
{{فَأْتُواْ بِسُورَةٍ}} لما احتج تعالى عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الإشراك، وعرفهم أن من جعل لله شريكاً فهو بمعزل من العلم والتمييز، أخذ يحتج على من شك في النبوة بما يزيل شبهته، وهو كون القرآن معجزة، وبين لهم كيف يعلمون أنه من عند الله أم من عنده، بأن يأتوا هم ومن يستعينون به بسورة من هذا، وهم الفصحاء البلغاء المجيدون حبك الكلام، والمتقلبون في أفانين البيان، والمشهود لهم في ذلك بالإحسان.
وطلب منهم الإتيان بمطلق سورة التي أقلها ثلاث آيات، فلم يقترح عليهم الإتيان بسورة طويلة فيعنتوا في ذلك، بل سهّل عليهم وأراح عليهم بطلب الإتيان بسورة ما، وهذا هو غاية التبكيت والتخجيل لهم.
وإنما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار من آيات القرآن لأن من جملة وجوه الإعجاز أمورا لا تظهر خصائصها إلا بالنظر إلى كلام مستوفي في غرض من الأغراض من براعة فواتح الكلام وخواتمه، واستيفاء الغرض المسوق له الكلام، وصحة التقسيم، ونكت الإجمال والتفصيل، وأحكام الانتقال من فن إلى آخر من فنون الغرض، وفصل الجمل ووصلها، والإيجاز والإطناب، ونحو ذلك مما يرجع إلى نكت مجموع نظم الكلام، وتلك لا تظهر مطابقتها جلية إلا إذا تم الكلام واستوفى الغرض حقه.
فلا جرم كان لنظم القرآن وحسن سبكه إعجاز يفوت قدرة البشر وهو غير الإعجاز الذي لجمله وتراكيبه وفصاحة ألفاظه. فكانت السورة من القرآن بمنزلة خطبة الخطيب وقصيدة الشاعر لا يحكم لها بالتفوق إلا باعتبارات مجموعها بعد اعتبار أجزائها. ولذلك قال الطيبي: “ولسر النظم القرآني كان التحدي بالسورة، وإن كانت قصيرة دون الآيات وإن كانت ذوات عدد”.
والتنكير للإفراد أو النوعية. أي بسورة واحدة من نوع السور وذلك صادق بأقل سورة ترجمت باسم يخصها، وأقل السور في عدد الآيات سورة الكوثر. وقد كان المشركون بالمدينة تبعا للمشركين بمكة وكان نزول هذه السورة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة فكان المشركون كلهم ألبا على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتداولون الإغراء بتكذيبه وصد الناس عن اتباعه، فأعيد لهم التحدي بإعجاز القرآن الذي كان قد سبق تحديهم به في سورة يونس وسورة هود وسورة الإسراء.
وقد كان التحدي أولا بالإتيان بكتاب مثل ما نزل منه ففي سورة الإسراء: {{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}} [الإسراء:88]. فلما عجزوا اسْتُنْزِلُوا إلى الإتيان بعشر سور مثله كما في سورة هود { {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}} [هود:13]. ثم اسْتُنْزِلُوا إلى الإتيان بسورة مثله كما في سورة يونس {{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} } [يونس:38]
{{مِّن مِّثْلِهِ} } يحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى القرآن المنزل؛ والمعنى: من مثل ما نزلنا على عبدنا. أي من جنسه، ويحتمل أن يكون عائداً إلى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ والمعنى: من مثل محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ وكلاهما صحيح.
فالقول الأول على أنماط:
- من مثل القرآن في حسن النظم، وبديع الرصف، وعجيب السرد، وغرابة الأسلوب وإيجازه وإتقان معانيه.
- وقيل: في غيوبه من إخباره بما كان وبما يكون.
- وقيل: في احتوائه على الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والقصص والحكم، والمواعظ والأمثال.
- وقيل: في صدقه وسلامته من التبديل والتحريف.
- وقيل: في أنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تمله الأسماع، ولا يمحوه الماء، ولا تغنى عجائبه، ولا تنتهي غرائبه، ولا تزول طلاوته على تواليه، ولا تذهب حلاوته من لهوات تاليه.
- وقيل: في دوام آياته وكثرة معجزاته.
والقول الثاني في المثلية وكون الضمير عائداً على المُنزل عليه محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أنماط:
- من مثله من أمي لا يحسن الكتابة، على الفطرة الأصلية.
- من مثله لم يدارس العلماء، ولم يجالس الحكماء، ولم يؤثر عنه قبل ذلك تعاطي الأخبار، ولم يرحل من بلده إلى غيره من الأمصار.
- من مثله على زعمكم أنه ساحر شاعر مجنون.
- من مثله من أبناء جنسه وأهل مدرته.
والاحتمالات التي احتملها قوله: {{مِّنْ مِثْلِهِ} } كلها مرادة لرد دعاوى المكذبين في اختلاف دعاويهم، فإن منهم من قال: القرآن كلام بشر، ومنهم من قال: هو مكتتب من أساطير الأولين، ومنهم من قال: إنما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ. وهاته الوجوه في معنى الآية تفند جميع الدعاوي فإن كان كلام بشر فأتوا بِمُمَاثِلِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ، وإن كان من أساطير الأولين فأتوا أنتم بجزء من هذه الأساطير، وإن كان يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ فأتوا أنتم مِنْ عِنْدِهِ بِسُورَةٍ فما هو ببخيل عنكم إن سألتموه. وكل هذا إرخاء لعنان المعارضة وتسجيل للإعجاز عند عدمها. فالتحدي على صدق القرآن هو مجموع مماثلة القرآن في ألفاظه وتراكيبه، ومماثلة الرسول المنزل عليه في أنه أمي لم يسبق له تعليم ولا يعلم الكتب السالفة، قال تعالى: {{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ}} [العنكبوت:51]
{{وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم}} ولما طلب منهم المعارضة بسورة على تقدير حصولهم في ريب من كونه من عند الله، لم يكتف بقولهم ذلك بأنفسهم، حتى طلب منهم أن يدعو شهداءهم على الاجتماع على ذلك والتظافر والتعاون والتناصر، فقال: {وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم}، وفسر هنا ادعوا: استغيثوا بمن يشهدكم ويحضركم من الأعوان والأنصار.
{{مِّن دُونِ اللّهِ}} مما سوى الله، أي وادعوا من دون الله شهداءكم، ولا تستشهدوا بالله تعالى، أمره تعالى إياهم بالمعارضة وبدعاء الأنصار والأعوان، مع علمه أنهم لا يقدرون على ذلك، أمر تهكم وتعجيز.
وقيل: المراد هنا ادعوا آلهتكم بقرينة قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ادعوهم من دون الله كدأبكم في الفزع إليهم عند مهماتكم معرضين بدعائهم واستنجادهم عن دعاء الله واللجأ إليه، ففي الآية إدماج توبيخهم على الشرك في أثناء التعجيز عن المعارضة، وهذا الإدماج من أفانين البلاغة أن يكون مراد البليغ غرضين فيقرن الغرض المسوق له الكلام بالغرض الثاني، وفيه تظهر مقدرة البليغ إذ يأتي بذلك الاقتران بدون خروج عن غرضه المسوق له الكلام ولا تكلف.
{{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} } فيما تقتدرون عليه من المعارضة، وقد حكى عنهم في آية أخرى: {{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ}} [الأنفال:31]
{{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ}} إثارة لهممهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وأبدع {وَلَن تَفْعَلُواْ} قطعا لأطماعهم.
وإنما عبر بلم تفعلوا ولن تفعلوا دون فإن لم تأتوا بذلك ولن تأتوا كما في قوله تعالى قال: {{ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} } إلى قوله: {{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ}} [يوسف:60] لأن في لفظ تفعلوا هنا من الإيجاز ما ليس مثله في الآية الأخرى إذ الإتيان المتحدى به في هذه الآية إتيان مكيف بكيفية خاصة وهي كون المأتي به مثل هذا القرآن ومشهودا عليه ومستعانا عليه بشهدائهم، فكان في لفظ تفعلوا من الإحاطة بتلك الصفات والقيود إيجاز لا يقتضيه الإتيان الذي في سورة يوسف.
وفي ذلك دليلان على إثبات النبوة.
أحدهما: صحة كون المتحدي به معجزاً، الثاني: الإخبار بالغيب من أنهم لن يفعلوا، وهذا لا يعلمه إلا الله تعالى، ويدل على ذلك أنهم لو عارضوه لتوفرت الدواعي على نقله خصوصاً من الطاعنين عليه، فإذا لم ينقل دل على أنه إخبار بالغيب وكان ذلك معجزه.
{{فَاتَّقُواْ النَّارَ}} جواب للشرط، وكنى به عن ترك العناد، لأن من عاند بعد وضوح الحق له استوجب العقاب بالنار، واتقاء النار من نتائج ترك العناد ومن لوازمه.
وهو إيجاز بديع وذلك أن اتقاء النار لم يكن مما يؤمنون به من قبل لتكذيبهم بالبعث فإذا تبين صدق الرسول لزمهم الإيمان بالبعث والجزاء.
وعرف {{النار} } هنا لأنه قد تقدم ذكرها نكرة في سورة التحريم، والتي في سورة التحريم نزلت بمكة، وهذه بالمدينة. فقال تعالى: {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}} [التحريم:6] وإذا كررت النكرة سابقة ذكرت ثانية بالألف واللام، وصارت معرفة لتقدمها في الذكر ووصفت بالتي وصلتها.
{{الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}} هذه الحجارة قال كثير من العلماء: إنها حجارة من كبريت. واختصت بذلك لما فيها من سرعة الالتهاب، ونتن الرائحة، وعظم الدخان، وشدة الالتصاق بالبدن، وقوة حرها إذا حميت. قيل: هو الكبريت الأسود، أو حجارة مخصوصة أعدت لجهنم، إذا اتقدت لا ينقطع وقودها.
وقال بعضهم: إنها الأصنام التي كانوا يعبدونها. وهذا القول يبينه ويشهد له قوله تعالى: {{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}} [الأنبياء:98] وفيه إهانة هؤلاء الكفار بإذلال آلهتهم، وطرحها في النار.
وحكمة إلقاء حجارة الأصنام في النار مع أنها لا تظهر فيها حكمة الجزاء أن ذلك تَحْقِيرٌ لها وزيادة إظهار خَطَأِ عَبَدَتِهَا فيما عبدوا، وَتَكَرَّرَ لحسرتهم على إهانتها، وحسرتهم أيضا على أن كان ما أعدوه سببا لعزهم وفخرهم صار سببا لعذابهم، وما أعدوه لنجاتهم سببا لعذابهم
وفي هذه الآية تعريض بتهديد المخاطبين، والمعنى المعرض به فاحذروا أن تكونوا أنتم وما عبدتم وقود النار، وقرينة التعريض قوله: {{فَاتَّقُوا}} وقوله: {{وَالْحِجَارَةُ}} لأنهم لما أمروا باتقائها أمر تحذير علموا أنهم هم الناس، ولما ذكرت الحجارة علموا أنها أصنامهم، فلزم أن يكون الناس هم عباد تلك الأصنام.
وليس في ذلك أيضاً ما يدل على أنها ليس فيها غير الناس والحجارة، بدليل ما ذكر في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها، وقدم الناس على الحجارة لأنهم العقلاء الذين يدركون الآلام والمعذبون، أو لكونهم أكثر إيقاداً للنار من الجماد لما فيهم من الجلود واللحوم والشحوم والعظام والشعور، أو لأن ذلك أعظم في التخويف. فإنك إذا رأيت إنساناً يحرق، أقشعرّ بدنك وطاش لبك، بخلاف الحجر.
{{أُعِدَّتْ}} قال ابن عطية: “ردّا على من قال: إن النار لم تخلق حتى الآن، وهو القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد”. ومعناه أنه زعم أن الإعداد لا يكون إلا للموجود، لأن الإعداد هو التهيئة والإرصاد للشيء.
ومنذر الذي ذكره ابن عطية كان يعرف بالبلوطي، وكان قاضي القضاة بالأندلس، وكان معتزلياً في أكثر الأصول ظاهرياً في الفروع، وله ذكر ومناقب في التواريخ، وهو أحد رجالات الكمال بالأندلس. وسرى إليه ذلك القول من قول كثير من المعتزلة، وهي مسألة تذكر في أصول الدين وهو: أن مذهب أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان على الحقيقة.
وذهب كثير من المعتزلة والجهمية والنجاومية إلى أنهما لم يخلقا بعد، وأنهما سيخلقان.
ووجود الجنة والنار أمر دلت عليه السنة أيضاً؛ فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عُرضت عليه الجنة والنار، ورأى أهلها يعذبون فيها: رأى عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الخُزاعي يجر قصبه -أي أمعاءه- في النار؛ ورأى المرأة التي حبست الهرة حتى ماتت جوعاً: فلم تكن أطعمتها، ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض؛ ورأى فيها صاحب المحجن -الذي كان يسرق الحُجَّاج بمحجنه- يعذب: وهو رجل معه محجن -أي عصا محنية الرأس- كان يسرق الحُجاج بهذا المحجن؛ إذا مر به الحجاج جذب متاعهم؛ فإن تفطن صاحب الرحل لذلك ادعى أن الذي جذبه المحجن؛ وإن لم يتفطن أخذه؛ فكان يعذب -والعياذ بالله- بمحجنه في نار جهنم.
قال ابن عثيمين: هل النار باقية؛ أو تفنى؟
ذكر بعض العلماء إجماع السلف على أنها تبقى ولا تفنى؛ وذكر بعضهم خلافاً عن بعض السلف أنها تفنى؛ والصواب أنها تبقى أبد الآبدين؛ والدليل على هذا من كتاب الله عزّ وجلّ في ثلاث آيات من القرآن: في سورة النساء، وسورة الأحزاب، وسورة الجن؛ فأما الآية التي في النساء فهي قوله تعالى: {{إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}} [النساء:168-169]؛ والتي في سورة الأحزاب قوله تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}} [الأحزاب:64-65]؛ والتي في سورة الجن قوله تعالى: {{وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} } [الجن:23]؛ وليس بعد كلام الله كلام؛ حتى إني أذكر تعليقاً لشيخنا عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- على كتاب «شفاء العليل» لابن القيم؛ ذكر أن هذا من باب: “لكل جواد كبوة؛ ولكل صارم نبوة”. وهو صحيح؛ كيف إن المؤلف رحمه الله يستدل بهذه الأدلة على القول بفناء النار مع أن الأمر فيها واضح؟! غريب على ابن القيم -رحمه الله- أنه يسوق الأدلة بهذه القوة للقول بأن النار تفنى! وعلى كل حال، كما قال شيخنا في هذه المسألة: “لكل جواد كبوة؛ ولكل صارم نبوة”؛ والصواب الذي لا شك فيه -وهو عندي مقطوع به- أن النار باقية أبد الآبدين؛ لأنه إذا كان يخلد فيها تخليداً أبدياً لزم أن تكون هي مؤبدة؛ لأن ساكن الدار إذا كان سكونه أبدياً لابد أن تكون الدار أيضاً أبدية.
وأما قوله تعالى في أصحاب النار: {{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ}} من الزيادة على مدتهما مما لا منتهى له، والمعنى خالدين فيها أبداً، وقيل: إلا ما شاء ربك من إخراج عصاة الموحدين بعد مدَّة من مكثهم في النار [هود:160-107] فهي كقوله تعالى في أصحاب الجنة: {{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} } أي خالدين فيها أبدا، وقيل: إلا الفريق الذي شاء الله تأخيره, وهم عصاة الموحدين, فإنهم يبقون في النار فترة من الزمن, ثم يخرجون منها إلى الجنة بمشيئة الله ورحمته [هود:108] لكن لما كان أهل الجنة نعيمهم، وثوابهم فضلاً ومنَّة، بيَّن أن هذا الفضل غير منقطع، فقال تعالى: {{عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ}} [هود:108]؛ ولما كان عذاب أهل النار من باب العدل، والسلطان المطلق للرب عزّ وجلّ قال تعالى في آخر الآية: {{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}} [هود:107]؛ وليس المعنى: {{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}} أنه سوف يخرجه من النار، أو سوف يُفني النار.
{{لِلْكَافِرِينَ}} ولا يدل إعدادها للكافرين على أنهم مخصوصون بها، كما ذهب إليه بعض المتأولين من أن نار العصاة غير نار الكفار، وقد ثبت في الحديث الصحيح إدخال طائفة من أهل الكبائر النار، لكنه اكتفى بذكر الكفار تغليباً للأكثر على الأقل.
فأما من دخلها من عصاة المؤمنين فإنهم لا يخلدون فيها؛ فهم فيها كالزوار؛ لا بد أن يَخرجوا منها؛ فلا تسمى النار داراً لهم؛ بل هي دار للكافر فقط؛ أما المؤمن العاصي -إذا لم يعف الله عنه- فإنه يعذب فيها ما شاء الله، ثم يخرج منها إما بشفاعة؛ أو بمنة من الله وفضل؛ أو بانتهاء العقوبة.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
Source link